سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون
الواقعة . . اسم للسورة وبيان لموضوعها معا . فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة ، ردا على قولة الشاكين فيها ، المشركين بالله ، المكذبين بالقرآن : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? . .
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة . وصفها بصفتها التي تنهي كل قول ، وتقطع كل شك ، وتشعر بالجزم في هذا الأمر . . الواقعة . . ( إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة ) . . وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم ، حيث تتبدل أقدار الناس ، وأوضاع الأرض ، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض ، كما يبدل القيم غير القيم سواء : خافضة رافعة . . إذا رجت الأرض رجا ، وبست الجبال بسا ، فكانت هباء منبثا . وكنتم أزواجا ثلاثة . . . الخ .
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة : السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفا مفصلا أوفى تفصيل ، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع ، لا مجال للشك فيه ، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان . حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين . وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين . وكانوا يصرون على الحنث العظيم . وكانوا يقولون : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون . . وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح . ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب !
وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة . ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها ، متوخيا توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول ؛ بلمسات مؤثرة ، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر ، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان ، أيا كانت بيئته ، ودرجة معرفته وتجربته .
يعرض نشأتهم الأولى من مني يمنى . ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى ، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى ، التي يعرفونها جميعا .
ويعرض صورة الحرث والزرع ، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها . إنشاؤها بيد الله وقدرته . ولو شاء الله لم تنشأ ، ولو شاء لم تؤت ثمارها .
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها . وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب . ولو شاء جعله ملحا أجاجا ، لا ينبت حياة ، ولا يصلح لحياة .
وصورة النار التي يوقدون ، وأصلها الذي تنشأ منه . . الشجر . . وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذرا . ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها .
وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة ، يلمس بها قلوبهم ، ولا يكلفهم فيها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها .
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن " الواقعة " فيشكون في وعيده . فيلوح بالقسم بمواقع النجوم ، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ، وأنه تنزيل من رب العالمين .
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار . في لمسة عميقة مؤثرة . حين تبلغ الروح الحلقوم ، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر ؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين ، لا يملكون له شيئا ، ولا يدرون ما يجري حوله ، ولا ما يجري في كيانه . ويخلص أمره كله لله ، قبل أن يفارق هذه الحياة . ويرى هو طريقه المقبل ، حين لا يملك أن يقول شيئا عما يرى ولا أن يشير !
ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق ، وتسبيح الله الخالق : ( إن هذا لهو حق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم ) . . فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام . .
( إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة . إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا . . . ) .
هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل . وهو يتبع أسلوبا خاصا يلحظ فيه هذا المعنى ، ويتناسق مع مدلولات العبارة . فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها . ( إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة ) . . ولا يقول : ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة ، وهي خافضة رافعة . ولكن يبدأ حديثا جديدا : ( إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا . ) . . ومرة أخرى لا يقول : ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم . . فكأنما هذا الهول كله مقدمة ، لا يذكر نتائجها ، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ ، أو تعبر عنها العبارة !
سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون ، نزلت بعد سورة طه ، وسميت سورة الواقعة لقوله تعالى { إذا وقعت الواقعة } . والواقعة من أسماء يوم القيامة . وقد اشتملت السورة على تفصيل أحوال الناس يوم القيامة ، فبدأت بالحديث عن وقوع القيامة ، والأحداث التي تصحب وقوعها . ثم أخبرت أن الناس في ذلك اليوم ثلاثة أصناف ، أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والمقرّبون أصحاب الدرجات العالية . ثم فصّلت عما أعد الله لكل صنف من نعيم يلائم منزلته ،
بعد ذلك بينت الآيات مظاهر نعم الله تعالى ، وآثار قدرته في بديع صنعه في خلق الإنسان ، والزرع ، وإنزال الماء من الغمام . وما أودعه الله في الشجر من النار التي تخرج منه ، وما تقتضيه هذه الآثار الباهرة من تعظيم العلي القدير وتقديسه .
ثم يقسم الله تعالى ذلك القسَم العظيم بمواقع النجوم ، { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون ، تنزيل من رب العالمين } ليدل على مكانة القرآن الكريم ، وما يستحقه من تعظيم وتقديس . ثم نعى على الكفار سوء صنيعهم من جحودهم وكفرهم بدلا من أن يشكروا الله تعالى على إيجادهم وخلق كل شيء لهم . ثم جاء الكلام بعد ذلك بإجمال ما فصّلته الآيات عن الأصناف الثلاثة وما ينتظر كل صنف من نعيم أو جحيم .
وخُتمت السورة بتأكيد أن كل ما جاء فيها هو اليقين الصادق ، والحق الثابت ، وأمرت الرسول الكريم والمؤمنين بقوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } وكان ختامها مسك الختام .
مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " [ الواقعة : 82 ] . وقال الكلبي : مكية إلا أربع آيات ، منها آيتان " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون . وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " [ الواقعة : 82 ] نزلتا في سفره إلى مكة ، وقوله تعالى : " ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين " [ الواقعة : 40 ] في سفره إلى المدينة . وقال مسروق : من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ، ونبأ أهل الجنة ، ونبأ أهل النار ، ونبأ أهل الدنيا ، ونبأ أهل الآخرة ، فليقرأ سورة الواقعة . وذكر أبو عمر بن عبدالبر في " التمهيد " و " التعليق " والثعلبي أيضا : أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قال : أفلا ندعو لك طبيبا ؟ قال : الطبيب أمرضني . قال : أفلا نأمر لك بعطاء لك ؟ قال : لا حاجة لي فيه ، حبسته عني في حياتي ، وتدفعه لي عند مماتي ؟ قال : يكون لبناتك من بعدك . قال : أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي ؟ إني أمرتهن أن يقرأن سورة " الواقعة " كل ليلة ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ) .
قوله تعالى : " إذا وقعت الواقعة " أي قامت القيامة ، والمراد النفخة الأخيرة . وسميت واقعة ؛ لأنها تقع عن قرب . وقيل : لكثرة ما يقع فيها من الشدائد . وفيه إضمار ، أي اذكروا إذا وقعت الواقعة . وقال الجرجاني : " إذا " صلة ، أي وقعت الواقعة ، كقوله : " اقتربت الساعة{[14608]} " [ القمر : 1 ] و " أتى أمر الله{[14609]} " [ النحل : 1 ] وهو كما يقال : قد جاء الصوم أي دنا واقترب . وعلى الأول " إذا " للوقت ، والجواب قوله : " فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة " [ الواقعة : 8 ] .
مكية إلا آيتي 81 و82 فمدنيتان وآياتها 96 نزلت بعد طه
روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبدا " ، ولما حضرت ابن مسعود الوفاة قيل له : ما تركت لبناتك ، قال : تركت لهن سورة الواقعة .
{ إذا وقعت الواقعة } يعني : إذا قامت القيامة فالواقعة اسم من أسماء القيامة ، تدل على هولها كالطامة والصاخة ، وقيل : الواقعة الصيحة وهي النفخة في الصور ، وقيل : الواقعة صخرة بيت المقدس ، تقع يوم القيامة وهذا بعيد .
سورة الواقعة{[1]}
مقصودها شرح{[2]} أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين{[3]} من المصارحين والمنافقين{[4]} من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال [ و-{[5]} ] دل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال ، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة ، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة ، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به ( بسم الله ) الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال ( الرحمن ) الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال ( الرحيم ) الذي أقبل{[6]} بأهل حزبه إلى{[7]} أهل قربه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال .
لما صنف سبحانه الناس في{[62060]} تلك إلى ثلاث أصناف : مجرمين وسابقين ولاحقين ، وختم بعلة ذلك وهو أنه ذو الانتقام والإكرام ، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بما ذكر في الرحمن غاية الظهور فقال بانياً على ما أرشده السياق إلى أن تقديره : يكون ذلك كله كوناً يشترك في علمه الخاص والعام : { إذا وقعت الواقعة * } أي التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها ، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق للحكم بينهم على الانفراد الظاهر الذي لا مدعى للمشاركة فيه بوجه من الوجوه ، ويجوز أن يكون { إذا } منصوباً بالمحذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب ، فيكون أهول{[62061]} أي إذا وقعت كانت{[62062]} أموراً يضيق عنها{[62063]} نطاق الحصر .
هذه السورة مكية وآياتها ست وتسعون ، وهي حافلة بأخبار القيامة وما يقع فيها وبين يديها من الأهوال الجسام والبلايا الرعيبة ، ومثل هذه الحقائق المذهلة تتراءى للخيال من الآيات والكلمات التي تضمنتها هذه السورة ، وهي آيات وكلمات تثير من عجائب الذكرى ما ينشر في النفس الفزع والرهبة ، وهذه حقيقة يستيقنها المتدبر وهو يتلو كلمات ربه في قوله : { إذا رجت الأرض رجا 4 وبسّت الجبال بسّا 5 فكانت هباء منبثا } وفي السورة بيان بفئات العباد الثلاث يوم القيامة وهم أهل اليمين ، وأهل الشمال ، والسابقون المقربون ، وما أعده الله لكل فئة من الجزاء ، إلى غير ذلك من ألوان المواعظ والترهيب .
{ إذا وقعت الواقعة 1 ليس لوقعتها كاذبة 2 خافضة رافعة 3 إذا رجت الأرض رجا 4 وبست الجبال بسا 5 فكانت هباء منبثا 6 وكنتم أزواجا ثلاثة 7 فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة 8 وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة 9 والسابقون السابقون 10 أولئك المقربون 11 في جنات النعيم } .
ذلك إعلان من الله بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن هذه حقيقة كائنة لا محالة فلا يصرفها صارف ولا يدفعها دافع ، وأن الناس حينئذ أصناف ثلاثة ، صنفان في الجنة وثالث في النار . وهو قوله : { إذا وقعت الواقعة } والواقعة اسم من أسماء القيامة . وقد سميت بذلك لتحقق وقوعها إذا شاء الله لها أن تقع . على أن التعبير باسم الفاعل في الواقعة ينبه إلى القيامة كائنة حقا وأن وقوعها آت لا شك فيه .