سورة الواقعة مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء . قال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون }{[1]} [ الواقعة 82 ] .
وقال الكلبي : مكية إلا أربع آيات ، منها آيتان ، { أفبهذا الحديث أنتم مُدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون } [ الواقعة 81 ، 82 ] نزلتا في سفر ، وقوله تعالى : { ثلّة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة 39 ، 40 ] نزلتا في سفره إلى " المدينة " {[2]} .
وهي سبع وتسعون آية ، وثلاث مائة وثمان وسبعون كلمة ، وألف [ وتسعمائة ]{[3]} وثلاثة أحرف .
قوله تعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } .
في «إذا » أوجه{[54658]} :
أحدها : أنها ظرف محض ليس فيها معنى الشَّرط ، والعامل فيها «ليس » .
الثاني : أن العامل فيها «اذْكر » مقدراً .
قال الزمخشري{[54659]} : فإن قلت : بم انتصب «إذا » ؟ .
قلت : ب «ليس » ، كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل .
قال أبو حيان{[54660]} : «ولا يقول هذا نحوي » .
قال : لأن «ليس » مثل «ما » النافية فلا حدث فيها ، فكيف تعمل في الظرف من غير حدث ، وتسميتها فعلاً مجازاً ، فإن حدَّ الفعل غير منطبق عليها .
ثم قال : وأمَّا المثال الذي نظر به ، فالظرف ليس معمولاً ل «ليس » بل للخبر ، وتقدم معمول خبرها عليها ، وهي مسألة خلاف . انتهى .
قال شهاب الدين{[54661]} : الظروف تعمل فيها روائح الأفعال ، ومعنى كلام الزمخشري أن النفي المفهوم من «ليس » هو العامل في «إذا » كأنه قيل : ينتفي كذب وقوعها إذا وقعت ، ويدل على هذا قول أبي البقاء رحمه الله .
والثاني : ظرف لما دل عليه { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } ، أي : إذا وقعت لم تكذب ، فإن قيل : فليجر ذلك في «ما » النافية ؟ .
فالجواب : أن الفعل أقرب إلى الدلالة على الحدث من الحرف .
الثالث : أنها شرطية ، وجوابها مقدر ، أي : «إذا وقعت كان كيت وكيت » ، وهو العامل فيها .
الرابع : أنها شرطية ، والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها ، وهو اختيار أبي حيان{[54662]} ، وتبع في ذلك مكيًّا .
قال مكي{[54663]} : «والعامل فيه «وقعت » ؛ لأنها قد يجازى بها ، فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في «مَا » ، و «مَنْ » اللتين للشرط في قولك : ما تَفْعَلْ أفْعَلْ ، ومن تُكْرِمْ أكْرِمْ » ، ثم ذكر كلاماً كثيراً .
الخامس : أنها مبتدأ ، و «إذَا رُجَّتْ » خبرها ، وهذا على قولنا : «إنها تتصرف » وقد مضى تحريره إلا أن هذا الوجه إنما جوزه ابن مالك ، وابن جني ، وأبو الفضل الرازي على قراءة من نصب «خافِضَةً رافِعَةً » على الحال ، وحكاه بعضهم عن الأخفش .
قال شهاب الدين : «ولا أدري اختصاص ذلك بوجه النَّصب »{[54664]} .
السادس : أنه ظرف ل «خافضة » ، أو «رافعة » . قاله أبو البقاء . أي إذا وقعت خفضت ورفعت{[54665]} .
السابع : أن تكون ظرفاً ل «رُجَّتْ » ، و«إذَا » الثانية على هذا إما بدل من الأولى ، أو تكرير لها .
الثامن : أن العامل فيه ما دلّ عليه قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة } أي : إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها .
التاسع : أن جواب الشرط ، قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة } إلى آخره ، و«لِوقعَتِهَا » خبر مقدم ، و«كاذبة » اسم مؤخر .
و«كاذبة » يجوز أن تكون اسم فاعل ، وهو الظَّاهر ، وهو صفة لمحذوف ، فقدر الزمخشري{[54666]} : «نفس كاذبة » .
أي : أن ذلك اليوم لا يكذب على الله أحد ، ولا يكذِّب بيوم القيامة أحد .
ثم قال : «و «اللام » مثلها في قوله : { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] ، أو ليس نفس تكذبها ، وتقول لها : لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها اليوم ، يقلن لها : لن تكوني ، أو هي من قولهم : كَذَبَتْ فُلاناً نفسُه في الخَطْبِ العظيم إذا شجعته على مباشرته ، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه ، فتعرض له ولا تبال به ، على معنى أنها وقعة لا تُطاق شدة وفظاعة ، وأن لا نفس حينئذ تحت صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها ؛ لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذلّ ، ألا ترى إلى قوله : { كالفراش المبثوث } ، والفراش مثل في الضعف »{[54667]} .
وقدره ابن عطية : «حال كاذبة » .
قال{[54668]} : ويحتمل الكلام على هذا معنيين :
أحدهما : كاذبة أي : مكذوبة فيما أخبر به عنها ، فسماها كاذبة لهذا ، كما تقول : هذه قصّة كاذبة ، أي : مكذوب فيها .
والثاني : حال كاذبة أي : لا يمضي وقوعها ، كقولك : فلان إذا حمل لم يكذب .
والثالث : «كاذبة » مصدر بمعنى التَّكذيب . نحو { خَائِنَةَ الأعين } [ غافر : 19 ] .
قال الزمخشري{[54669]} : وقيل : «كاذبة » مصدر ك «العاقبة » بمعنى التكذيب من قولك : حمل فلان على قرنه فما كذب ، أي فما جبن ولا تثبَّط ، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له وإقدامه عليه وأنشد ل «زهير » : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إذَا *** مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرانِهِ صَدَقَا{[54670]}
أي : إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد انتهى .
أحدهما : أنها لا محلّ لها من الإعراب ، إما لأنها ابتدائية ، ولاسيما على رأي الزمخشري ، حيث جعل الظرف متعلقاً بها .
وإما لأنها اعتراضية بين الشرط وجوابه المحذوف .
الثاني : أن محلّها النصب على الحال . قاله ابن عطية .
ولم يبين صاحب الحال ، ماذا ؟ .
وهو واضح إذ لم يكن هنا إلاَّ الواقعة ، وقد صرَّح أبو الفضل بذلك .
وقرأ العامة : برفع «خَافِضَةٌ ورافِعَةٌ » على أنها خبر ابتداء مضمر ، أي : هي خافضة قوماً إلى النَّار ، ورافعة آخرين إلى الجنة ، فالمفعول محذوف لفهم المعنى .
أو يكون المعنى أنها ذات خفض ورفع ، كقوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ، { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] .
وقرأ زيد بن علي وعيسى{[54671]} والحسن ، وأبو حيوة ، وابن مقسم واليزيدي : بنصبهما على الحال .
ويروى عن الكسائي أنه قال{[54672]} : «لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به » انتهى .
قال شهاب الدين{[54673]} : «ولا أظن مثل هذا يصح عن مثل هذا » .
فقال أبو البقاء{[54674]} : من الضمير في «كاذبة » ، أو في «وقعت » .
وإصلاحه أن نقول : أو فاعل «وقعت » ؛ إذ لا ضمير في «وقعتْ » .
وقال ابن عطية{[54675]} وأبو الفضل : من «الواقعة » .
ثم قرّرا مجيء الحال متعددة من ذي حال واحدة ، كما تجيء الأخبار متعددة . وقد تقدم بيانه .
وقال أبو الفضل : «وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً ، كان العامل في «إذا وقعت » محذوفاً يدل عليه الفحوى ، أي : إذا وقعت يحاسبون » .
قال المفسرون{[54676]} : { إذا وقعت الواقعة } أي : إذا قامت القيامة ، والمراد : النَّفخة الأخيرة ، وسميت الواقعة لأنها تقعُ عن قرب .
وقيل : لكثرة ما يقع فيها من الشَّدائد .
قال الجرجاني{[54677]} : «إذا » صلة ، أي : وقعت الواقعة ، كقوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وهو كما يقال : جاء الصوم ، أي : دنا واقترب .
وقال القرطبي{[54678]} : فيه إضمار ، أي : اذكر إذا وقعت ، وعلى هذا «إذا » للتَّوقيت ، والجواب قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة } .
وقال ابن الخطيب{[54679]} : أو يكون التقدير : إذا وقعت الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد ، ولا يتمكّن أحد من إنكارها .
و{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } .
«الكاذبة » : مصدر بمعنى الكذب ، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر{[54680]} كقوله تعالى : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] أي : لغو ، والمعنى : ليس لها كذب .
ومنه قول العامة : عائذاً بالله ، أي : معاذ الله ، وقُمْ قائماً ، أي : قم قياماً .
وقيل : الكاذبة : صفة ، والموصوف محذوف ، أي : ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة ، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق .
وقال الزجاج{[54681]} : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي : لا يردها شيء . ونحوه قول الحسن وقتادة .
وقال الثوري : ليس لوقعتها أحد يكذب بها .
وقيل : إن قيامها جدّ لا هزل فيه{[54682]} .
وقوله : { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } .
قال عكرمة ومقاتل والسدي : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ، ورفعت من نأى{[54683]} ، يعنى أسمعت القريب والبعيد .
وعن السّدي : خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين{[54684]} .
وقال قتادة : خفضت أقواماً في عذاب الله ، ورفعت أقواماً إلى طاعة الله{[54685]} .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خفضت أعداء الله في النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة{[54686]} .
وقال ابن عطاء : خفضت أقواماً بالعدل ، ورفعت أقواماً بالفضل{[54687]} .
والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعزّ والمهانة ، ونسب سبحانه وتعالى الرفع والخفض إلى القيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يمكن منه الفعل ، يقولون : ليلٌ قائم ، ونهار صائم .
وفي التنزيل : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] .
والرافع والخافض في الحقيقة هو الله تعالى .
و«اللام » في قوله «لوقعتها » إما للتعليل ، أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها .
وإما للتعدية ، كقولك : «ليْسَ لزيد ضارب » فيكون التقدير : إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب يكذب إذا أخبر عنه .
قال ابن الخطيب{[54688]} : وعلى هذا لا يكون «ليس » عاملاً في «إذا » وهو بمعنى «ليس » لها كاذب .