هؤلاء المكذبون بالآخرة يوقظهم بعنف على مشهد كوني يصور لهم أنه واقع بهم - لو شاء الله - وظلوا هم في ضلالهم البعيد . مشهد الأرض تخسف بهم والسماء تتساقط قطعاً عليهم :
( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض ، أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . .
وهو مشهد كوني عنيف ، منتزع في الوقت ذاته من مشاهداتهم أو من مدركاتهم المشهودة على كل حال .
فخسف الأرض يقع ويشهده الناس . وترويه القصص والروايات أيضاً . وسقوط قطع من السماء يقع كذلك عند سقوط الشهب وحدوث الصواعق . وهم رأوا شيئاً من هذا أو سمعوا عنه . فهذه اللمسة توقظ الغفاة الغافلين ، الذين يستبعدون مجيء الساعة . والعذاب أقرب إليهم لو أراد الله أن يأخذهم به في هذه الأرض قبل قيام الساعة . يمكن أن يقع بهم من هذه الأرض وهذه السماء التي يجدونها من بين أيديهم ومن خلفهم ، محيطة بهم ، وليست بعيدة عنهم بعد الساعة المغيبة في علم الله . ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون .
وفي هذا الذي يشهدونه من السماء والأرض ، والذي يتوقع من خسف الأرض في أية لحظة أو سقوط قطع من السماء . في هذا آية للقلب الذي يرجع ويثوب :
( إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . . لا يضل ذلك الضلال البعيد . .
أعلم الله تعالى أن الذي قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم ، فاستدل بقدرته عليهم ، وأن السموات والأرض ملكه ، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب ، فكيف يأمنون الخسف والكسف . كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة . وقرأ حمزة والكسائي إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط " بالياء في الثلاث ؛ أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم ، أو السماء فتسقط عليهم كسفا . الباقون بالنون على التعظيم . وقرأ السلمي وحفص " كسفا " بفتح السين . الباقون بالإسكان . وقد تقدم بيانه في " الإسراء " {[12959]} وغيرها . " إن في ذلك لآية " أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا " لآية " أي دلالة ظاهرة . " لكل عبد منيب " أي تائب رجاع إلى الله بقلبه . وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته .
ولما كانوا قد أنكروا الساعة لقطعهم بأن من مزق كل ممزق لا يمكن إعادته ، فقطعوا جهلاً بأن الله تعالى لا يقول ذلك ، فنسبوا الصادق صلى الله عليه وسلم في الإخبار بذلك إلى أحد أمرين : تعمد الكذب أو الجنون . شرع سبحانه يدل على صدقه في جميع ما أخبر به ، فبدأ بإثبات قدرته على ذلك بما يشاهدون من قدرته على ما هو مثله ، أو أعظم منه مشيرا إلى أن إنكارهم لذلك مستند{[56424]} إلى ضلالهم بسبب غفلتهم عن تدبر الآيات ، فكان المعنى : ضلوا فلم يروا ، فدل عليه منكراً عليهم مهدداً لهم مقرراً لذوي العقول من السامعين بقوله : { أفلم يروا } ونبه على أنهم في محل بعد عن الإبصار النافع بحرف النهاية فقال : { إلى ما بين أيديهم } أي أمامهم { وما خلفهم } وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كل من الخافقين وأنهما{[56425]} قد أحاطا بهم كغيرهم . ولما لم تدع حاجة إلى الجمع أفرد فقال : { من السماء والأرض } أي اللذين جعلنا{[56426]} مطلع السورة أن لنا كل ما فيهما .
ولما كان الإنكار لائقاً{[56427]} بمقام العظمة ، فكان المعنى : إنا نفعل بهما وفيهما ما نشاء ، عبرعنه بقوله : { إن نشأ } بما لنا من العظمة - على قراءة الجمهور{[56428]} { نخسف } أي نغور { بهم } وأدغم الكسائي إلى أنه سبحانه قد يفعل ذلك في أسرع من اللمح بحيث يدرك لأكثر الناس وقد يفعله على وجه الوضوح وهو أكثر - بما أشارت إليه قراءة الإظهار للجمهور . ولما كان الخسف قد يكون لسطح أو سفينة ونحوهما ، خص الأمر بقوله{[56429]} : { الأرض } أي{[56430]} كما فعلنا بقارون وذويه{[56431]} لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيها بأولى من غيره{[56432]} { أو نسقط عليهم كسفاً } بفتح السين على قراءة حفص{[56433]} وبإسكانه على قراءة غيره أي قطعاً { من السماء } كذلك ليكون شديد الوقع لبعد الموقع المدى عن السحاب ونحوه{[56434]} لأن من المعلوم أنا نحن خلقناهما ، ومن أوجد شيئاً قدر على {[56435]}هذه وهذا{[56436]} ما أراد منه ، ومن جعل السياق للغيب - وهو{[56437]} حمزة والكسائي - رد الضمير على الاسم الأعظم الذي جعله مطلع السورة .
ولما كان هذا أمراً ظاهراً ، أنتج قوله مؤكداً لما لهم من إنكار البعث : { إن في ذلك } أي في{[56438]} قدرتنا على ما نشاء من كل منهما والتأمل في فنون تصاريفهما { لآية } أي علامة بينة على أنا نعامل من شئنا فيهما بالعدل بأي عذاب أردنا ، ومن شئنا بالفضل بأي ثواب أردنا ، وذلك دال على أنا قادرون على كل ما نشاء من الإماتة والإحياء وغيرهما ، فقد خسفنا بقارون وآله وبقوم لوط وأشياعهم ، وأسقطنا من السماء على أصحاب الأيكة يوم الظلة{[56439]} قطعاً من النار ، وعلى قوم لوط حجارة ، فأهلكناهم بذلك أجمعين{[56440]} . ولما كانت الآيات لا تنفع من طبع على العناد قال تعالى : { لكل عبد } أي متحقق أنه {[56441]}مربوب ضعيف{[56442]} مسخر لما يراد منه { منيب * } أي فيه قابلية الرجوع عما أبان له الدليل عن أنه زل فيه .
قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } .
ذلك توبيخ من الله للمكذبين بيوم القيامة الذين يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الله فيهم مبكتا مُقرِّعا : { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } يعني أفلا ينظر هؤلاء الجاحدون إلى ما حولهم من السماوات والأرض ، فكل ذلك مملوك لله ، وهم حيثما كانوا فإن ملكوت الله محيط بهم من أمامهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وإنْ يشأ الله { نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ } الخسف الذهاب في الأرض{[3786]} أي يعذبهم بالخسف ليغوروا في الأرض { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } أي إن يشأ الله يعذبهم بإسقاط السماء عليهم قطعا فيدمرهم تدميرا .
قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } الإشارة عائدة إلى إسقاط السماوات والأرض عليهم وقدرة الله على إهلاكهم بالذهاب في الأرض وإسقاط السماء عليهم قطعا ، فإن ذلك كله لدلالة ظاهرة لكل عبد مؤمن راجع إلى الله بقلبه وجوارحه . وقد خصَّ العبد المنيب ؛ لأنه أجدر أن ينتفع بالذكرى .