وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً . فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) . .
إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم ، موضوعة تحت أذقانهم . ومن ثم فإن رؤوسهم مرفوعة قسراً ، لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام ! ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف ! وهم إلى هذا محال بينهم وبين الحق والهدى بسد من أمامهم وسد من خلفهم ؛ فلو أرخي الشد فنظروا لم تنفذ أبصارهم كذلك من هذه السدود ! وقد سدت عليهم سبيل الرؤية وأغشيت أبصارهم بالكلال !
ومع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع ، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلاً عنيفاً كهذا بينهم وبينه . وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي ، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع ، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك . مشدودة عن الهدى قسراً وملفوتة عن الحق لفتاً . وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك . وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود . وهو يصدع بالحجة ، ويدلي بالبرهان . وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان .
قوله تعالى : " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " قال مقاتل : لما عاد أبو جهل إلى أصحابه ، ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وسقط الحجر من يده ، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال : أقتله بهذا الحجر . فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم طمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه ، فهذا معنى الآية . وقال محمد بن إسحاق في روايته : جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل وأمية بن خلف ، يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه ، فخرج عليهم عليه السلام وهو يقرأ [ يس ] وفي يده تراب فرماهم به وقرأ : " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام . وقد مضى هذا في سورة [ سبحان ]{[13191]} ومضى في " الكهف " {[13192]} الكلام في " سدا " بضم السين وفتحها وهما لغتان ، " فأغشيناهم " أي غطينا أبصارهم ، وقد مضى في أول " البقرة " {[13193]} . وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر " فأعشيناهم " بالعين غير معجمة من العشاء في العين وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل قال :
متى تأتهِ تَعْشُو إلى ضوءِ نارِه{[13194]}
وقال تعالى : " ومن يعش عن ذكر الرحمن " [ الزخرف : 36 ] الآية . والمعنى متقارب ، والمعنى أعميناهم . كما قال :
ومن الحوادث لا أبا لكَ أنَّنِي *** ضُرِبَتْ عليَّ الأرضُ بالأَسْدَادِ
لا أهتدي فيها لموضع تَلْعَةً *** بين العُذَيْبِ وبين أرضِ مُرَادِ
" فهم لا يبصرون " أي الهدى . قاله قتادة . وقيل : محمدا حين ائتمروا على قتله . قاله السدي . وقال الضحاك : " وجعلنا من بين أيديهم سدا " أي الدنيا " ومن خلفهم سدا " أي الآخرة ، أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا . قال الله تعالى : " وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم " [ فصلت : 25 ] أي زينوا لهم الدنيا ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة . وقيل : على هذا " من بين أيديهم سدا " أي غرورا بالدنيا " ومن خلفهم سدا " أي تكذيبا بالآخرة . وقيل : " من بين أيديهم " الآخرة " ومن خلفهم " الدنيا .
ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال : { وجعلنا } أي بعظمتنا . ولما كان المقصود حجبهم عن خير مخصوص ، وهو المؤدي إلى السعادة الكاملة لا عن كل ما ينفعهم ، أدخل الجار فقال : { من بين أيديهم } أي الوجه الذي يمكنهم علمه { سداً } . ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال : { ومن خلفهم } أي الوجه الذي هو خفي عنهم ، وأعاد السد تأكيداً لإنكارهم ذلك وتحقيقاً لجعله فقال : { سداً } أي فصارت كل جهة يلتفت إليها منسدة ، فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق ولا الخلوص إليه ، فلذلك قال : { فأغشيناهم } أي جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة { فهم } أي بسبب ذلك { لا يبصرون * } أي لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم ببصر ظاهر وبصيرة باطنة أصلاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.