سورة المزمل مكية وآياتها عشرون
يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وللدعوة التي جاءهم بها . فبلغ ذلك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاغتم له ؛ والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما . فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . . الخ )وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . . )إلى آخر السورة . تأخر عاما كاملا . حين قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه ، حتى ورمت أقدامهم ، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا .
وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك - كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء الله .
وخلاصتها أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان يتحنث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهر ويتعبد - وكان تحنثه - عليه الصلاة والسلام - شهرا من كل سنة - هو شهر رمضان - يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريبا منه . فيقيم فيه هذا الشهر ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة . . وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .
وكان اختياره [ صلى الله عليه وسلم ] لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم . ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة ؛ ويفرغ لموحيات الكون ، ودلائل الإبداع ؛ وتسبح روحه مع روح الوجود ؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال ؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم .
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى . . لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الأرض ، وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة . فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره . أما الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر ، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس ، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع !
وهكذا دبر الله لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ . دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات . ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .
فلما أن أذن ، وشاء - سبحانه - أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض ، جاء جبريل عليهالسلام إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو في غار حراء . . وكان ما قصه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من أمره معه فيما رواه ابن إسحاق عن وهب بن كيسان ، عن عبيد ، قال :
" فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ . قال قلت : ما أقرأ [ وفي الروايات : ما أنا بقارئ ] قال : فغتني به [ أي ضغطني ] حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ . قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ : قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قال قلت : ماذا أقرأ ? قال : ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي . فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . قال : فقرأتها . ثم انتهى فانصرف عني . وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا . قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فرفعت رأسي إلى السماء أنظر . فإذا جبريل في صورة رجل ، صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه . فما أتقدم وما أتأخر . وجعلت أحول وجهي عنه في آفاق السماء . قال : فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك . فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها [ أي ملتصقا بها مائلا إليها ] فقالت : يا أبا القاسم أين كنت ? فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي . ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : " أبشر يا بن عم واثبت . فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة " " .
ثم فتر الوحي مدة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثى وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرجف ، يقول : " زملوني . دثروني " . . ففعلوا . وظل يرتجف مما به من الروع . وإذا جبريل يناديه : ( يا أيها المزمل ) . . ( وقيل : يا أيها المدثر )والله أعلم أيتهما كانت .
وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة . أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها ، فقد علم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه لم يعد هناك نوم ! وأن هناك تكليفا ثقيلا ، وجهادا طويلا ، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام !
وقيل لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]( قم ) . . فقام . وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما ! لم يسترح . ولم يسكن . ولم يعش لنفسه ولا لأهله . قام وظل قائما على دعوة الله . يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به . عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض . عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى .
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها ، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها ، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها . . حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر . . بل معارك متلاحقة . . مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها ، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء ، وتظلل مساحات أخرى . . ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانتالروم تعد لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية .
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت . فهي معركة خالدة ، الشيطان صاحبها ؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني . . ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] قائم على دعوة الله هناك . وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة . في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه . وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة . وفي نصب دائم لا ينقطع . . وفي صبر جميل على هذا كله . وفي قيام الليل . وفي عبادة لربه . وترتيل لقرآنه وتبتل إليه ، كما أمره أن يفعل وهو يناديه : ( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا . واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا . واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) .
وهكذا قام محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما . لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد . منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب . . جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء . .
وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد . ويكاد يكون على روي واحد . هو اللام المطلقة الممدودة . وهو إيقاع رخي وقور جليل ؛ يتمشى مع جلال التكليف ، وجدية الأمر ، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق . . هول القول الثقيل الذي أسلفنا ، وهول التهديد المروع : ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ، إن لدينا أنكالا وجحيما ، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ) . . وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس : ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) . . ( فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ، السماء منفطر به ، وكان وعده مفعولا ) .
فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني ؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه . والله يعده ويعدهم بهذا القيام لما يعدهم له ! فنزل التخفيف ، ومعه التطمين بأنه اختيار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم . . أما هذه الآية فذات نسق خاص . فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة ، وفيها هدوء واستقرار ، وقافية تناسب هذا الاستقرار : وهي الميم وقبلها مد الياء : ( غفور رحيم ) .
والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة . تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم . وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل ، والصلاة ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل . والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة ! . .
وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير . والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله ومغفرته : ( إن الله غفور رحيم ) . .
وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار منالبشرية - البشرية الضالة ، ليردها إلى ربها ، ويصبر على أذاها ، ويجاهد في ضمائرها ؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري ، ولذاذة تلهي ، وراحة ينعم بها الخليون . ونوم يلتذه الفارغون !
( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا ، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا . رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . .
( يا أيها المزمل . . قم . . ) . . إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال . . قم . . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك . قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [ صلى الله عليه وسلم ] من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة ? وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ? ! ولقد عرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حقيقة الأمر وقدره ، فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام : " مضى عهد النوم يا خديجة " ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق !
( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) . .
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة . . قيام الليل . أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه . وأقله ثلث الليل . . قيامه للصلاة وترتيل القرآن . وهو مد الصوت به وتجويده . بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم .
وقد صح عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة . ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا ، يرتل فيه القرآن ترتيلا .
روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام . . أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . . . ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ القرآن ? قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان القرآن . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ هذه السورة : ( يا أيها المزمل )? قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا . ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا . ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها . وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان . . . "
قوله جل ذكره : { بسم الله الرحمان الرحيم } .
" بسم الله " : الحادثات بالله حصلت ، فقلوب العارفين بالله عرفت ما عرفت وأرواح الصديقين بالله ألفت من ألفت وفهوم الموحدين بساحات جلاله وقفت ، ونفوس العابدين بالعجز عن استحقاق عبادته اتصفت وعقول الأولين والآخرين بالعجز عن معرفة جلاله اعترفت .
قوله جلّ ذكره : { يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ الَّليْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } .
أي : المتزمل المتلفِّف في ثيابِه . وفي الخبر : " أنه كان عند نزول هذه الآية عليه مِرْطُ من شَعْرٍ وَبَرٍ ، وقالت عائشة رضي الله عنها : نصفُه عليَّ وأنا نائمة ، ونصفه على رسول الله وهو يُصَلِّي ، وطولُ المِرْطِ أربعةُ عشر ذراعاً " .
( سورة المزمل مكية ، وآياتها 20 آية ، نزلت بعد سورة القلم )
وهي سورة تحمل النداء الإلهي للنبي الكريم بقيام الليل ، وقد جعله الله فريضة في حقه ، نافلة في حق أمته .
قال تعالى : ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا . ( الإسراء : 79 ) .
وفي كتب السنة ما يفيد أن هذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش بين قومه في الجاهلية ، ثم حبب الله إليه الخلوة ليتأمل في ملكوت السماوات والأرض ، وليعده الله لتحمل أعباء الرسالة ، ثم فجأة الوحي وهو في غار حراء ، حيث قال له جبريل : اقرأ ، قال النبي : ( ما أنا بقارئ ) ثلاث مرات ، فقال جبريل : اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علّم الإنسان ما لم يعلم . ( العلق : 1-5 ) .
وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة وأخبرها الخبر ، فقالت له : أبشر يا ابن عمّ واثبت ، فو الذي نفس خديجة بيده ، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة .
ثم فتر الوحي مدة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بالجبل مرة أخرى ، فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثا وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرجف يقول : ( زملوني ، دثروني ) ، ففعلوا ، وظل يرتجف مما به من الروع ، وإذا جبريل يناديه : يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر .
وسورة المزمل تعرض صفحة من تاريخ الدعوة الإسلامية ، إنها تنادي النبي الكريم ، وتأمره بقيام الليل ، والصلاة وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل ، والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار .
وتنتهي السورة بلمسة الرفق والرحمة ، والتخفيف والتيسير ، والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله مغفرته . إن الله غفور رحيم . ( المزمل : 20 ) .
والسورة تمثل صفحة من جهاد النبي الكريم ، وصحبه الأبرار في سبيل الدعوة إلى الله ، وحشد جميع الطاقات من أجل هذه الدعوة ، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة داعيا إلى الله ، صابرا محتسبا ، مهاجرا ومجاهدا ومربيا ، وناشرا لدعوة الله بكل ما يملك ، منذ قال له القرآن : قم الليل إلا قليلا . ( المزمل : 2 ) .
وكان قيام الليل هو الزاد الروحي ، والتعبئة الإلهية لهذا القلب الكريم ، حتى يصدع بالدعوة ، ويتحمل في سبيلها كل بلاء ، وليصبر ويصابر ، وليحتسب كل جهد في سبيل الله : واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا . ( المزمل : 10 ) .
1-4- أمر الله رسوله أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه ، فهو مخير في ذلك ، وأن يقرأ القرآن الكريم على مهل وتؤدة ، مع حضور القلب لتدبر معانيه وفهم مقاصده .
5- والقرآن يسره الله للقراءة ، ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل في أثره في القلوب ، ثقيل في قيمته الراجحة ، ومعانيه الراقية ، وما فيه من تكاليف وأعباء .
6- إن قيام الليل هو أكبر موافقة بين القلب واللسان ، وأعدل قولا .
7- وفي النهار متسع لشئون المعاش ، ولك فيه تصرف في مهام أمورك ، واشتغال بمشاغلك .
8-9- واتجه إلى الله بالعبادة وحضور القلب ، واذكره وتضرع إليه ، في إنابة وطاعة وإخلاص ، فهو رب الكون كله ، والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود .
10- واصبر على ما يقولون في حقك ربك ، واهجرهم هجرا جميلا ، بأن تجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتبهم .
11- ثم توعد المشركين وتهددهم ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : اترك عقابهم لي وحدي ، فأنا كفيل بهم ، هؤلاء الذين تنعموا في نعمائي ، أمهلهم وقتا قليلا من الزمن ، وسترى ما يحل بهم .
12 ، 13- إن لدينا أنكالا . أي : قيودا ثقيلة توضع في أرجلهم ، كلما أرادوا أن يرتفعوا جذبتهم إلى أسفل ، ثم هناك الجحيم ، والطعام ذو الغصة ، الذي يمزق الحلوق ، والعذاب الأليم ، وكلها جزاء مناسب لمن كفر بنعمة الله .
14- ويمتد الهول في يوم القيامة إلى الأرض فتضطرب وتهتز ، وإلى الجبال فتتمزق أجزاؤها ، وتصير كالصوف المنفوش أو كومة الرمل المهيلة ، بعد أن كانت حجارة صماء متماسكة .
15 ، 16- ويلتفت القرآن إلى أهل مكة فيخاطبهم ، ويهز قلوبهم هزّا ، ويخلعها خلعا ، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترتجف وتنهار ، فيحذرهم مما أصاب فرعون الجبار ، وقد أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، ومضمون القول : لقد أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه ، فأخذناه أخذا وبيلا ، وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه .
17 ، 18- وهبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا كما أخذ فرعون ، فكيف تتقون عذاب يوم القيامة ، وهو هول يشيب الولدان ، وتنشق السماء من شدته ، وكان وعد الله ثابتا مؤكدا لا خلف فيه ، وهو سبحانه فعال لما يريد .
19- وأمام هول الآخرة لهم : إن هذه الآيات تذكرة وعبرة ، فمن شاء اعتبر بها ، واتخذ طريقا إلى الله وهو آمن سالم ، قبل مجيء هذا الهول العصيب .
20- وفي الآية الأخيرة من السورة نجد لمسة التخفيف الندية ، ودعوة التيسير الإلهي ، فقد لبى النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى قيام الليل ، ولبى المسلمون الدعوة ، وتجافت جنوبهم عن المضاجع ، وقاموا الليل حتى تورمت أقدامهم من طول القيام ، فقال القرآن : إن ربك يعلم أنك تقوم الليل ، ويرى تقلبك في الساجدين ، والله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تاما ، فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض ، وإن نقصتم شق هذا عليكم ، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر ، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر من الليل على قدر طاقتكم .
وإن لهذا التخفيف حكمة أخرى ، وهي أنه علم أن سيكون منكم مرضى ، وآخرون يسيحون في الأرض يطلبون من فضل الله بالتجارة أو العلم ، وآخرون يقاتلون في سبيل الله ، فقد علم الله أن سيأذن لكم في الانتصار ممن ظلمكم بالقتال ، فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل بدون تقيد بقدر محدد ، وأقيموا الصلاة المفروضة ، وآتوا الزكاة الواجبة ، وتصدقوا بعد ذلك قرضا لله ، يبق لكم خيره ، ويرده الله إليكم أضعافا مضاعفة ، وما تقدموا لأنفسكم من صدقة أو عمل صالح في الدنيا ، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة ، خيرا مما أوتيتم في دار الدنيا ، وأعظم منه أجرا ، واتجهوا إلى الله مستغفرين ، إن الله غفور رحيم .
إنها لمسة الرحمة والتخفيف بعد عام من الدعوة إلى القيام ، وقد خفف الله عن المسلمين فجعل قيام الليل لهم تطوعا لا فريضة .
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى نهجه مع ربه ، لا يقل قيامه عن ثلث الليل ، يناجي ربه ويستمد منه العون والتوفيق في أداء رسالته . وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . ( هود : 88 ) .
أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بما يأتي :
1- قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه .
3- ذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة .
4- التوكل على الله والاعتماد عليه .
5- الصبر على ما يقول الكفار عنه من أنه ساحر أو شاعر ، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم ، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يجازيهم ، وسيرى عاقبة أمرهم .
6- التخفيف من صلاة الليل ، بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة ، والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل ، ففي الصلاة المفروضة غنية للأمة ، مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار .
{ يا أيها المزّمل 1 قم الليل إلا قليلا 2 نصفه أو انقص منه قليلا 3 أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا 4 إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا 5 إن ناشئة الليل هي أشدّ وطئا وأقوم قيلا 6 إن لك في النهار سبحا طويلا 7 واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا 8 رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا 9 }
المزمل : المتلفّف بثيابه ( النبي صلى الله عليه وسلم ) .
الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
نصفه وانقص منه قليلا : انقص من النصف قليلا إلى الثلث .
أو زد عليه : إلى الثلثين ، والمراد به التخيير بين قيام النصف ، والناقص منه ، والزائد عليه ، فهو صلى الله عليه وسلم مخيّر بين قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه .
رتّل القرآن : اقرأه بتمهّل وتبيين حروف .
1 ، 2 ، 3 ، 4- يا أيها المزّمل* قل الليل إلا قليلا* نصفه أو انقص منه قليلا* أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا .
أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو في غار حراء ، يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، ثم يعود إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء ، حيث ضمّه الملك ضمّا شديدا حتى بلغ منه صلى الله عليه وسلم الجهد ، وأرسله فقال : اقرأ . قال صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ ، أي لا يعرف القراءة ، وتكرر ذلك ثلاث مرات .
ثم قال له : اقرأ باسم ربك الذي خلق . ( العلق : 1 ) .
وعاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة فدخل على خديجة ، وأخبرها الخبر ، ثم قال : ( زمّلوني ، دثّروني ) . أي : غطوني ولفّوني في ثياب ، ليهدأ روعه صلى الله عليه وسلمi .
وسورة المزمّل هي السورة الرابعة في النزول ، سبقتها سورة العلق ، ثم ن ، ثم المدّثر ، ثم نزلت المزمّل .
وقيل : كان ذلك تذكيرا له باللحظة التي كان فيها بعد نزول الوحي أوّل مرة ، وناداه الله بذلك تأنيسا لقلبه ، وملاطفة له .
وقيل : يا أيها المزمّل بالنبوة ، والملتزم بالرسالة .
شمّر عن ساعد الجدّ ، واهجر المنام ، واستعدّ للقيام بين يدي الملك العلام ، إنها فترة الإعداد لتلقي الوحي ، والجهاد في سبيل تبليغ الرسالة ، وهذه المهمة تحتاج إلى تعبئة روحية ، وشدة اتصال بين المخلوق والخالق ، أي : استعدّ لقيام الليل ، إلا القليل منه تقضيه في النوم والراحة ، للاستعانة بذلك على تبليغ الرسالة .
أي : قم نصف الليل ، أو أقل من النصف قليلا ، وهو الثلث .
أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا .
أو زد على النصف إلى الثلثين ، فخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قيام نصف الليل ، أو أقل منه قليلا وهو الثلث ، أو أزيد من النصف وهو الثلثان .
وقيل : خيّر بين قيام نصف الليل ، أو ربعه ، أو ثلاثة أرباعه ، والرأي الأوّل أولى .
اقرأ القرآن في عناية وترتيل وتبيين ، وتجميل للصوت ، وأداء حسن ، فإن ذلك أعون على تبيّن المعاني ، وانشغال القلب مع اللسان .
روى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن )ii .
أي : يحسّن صوته ويجمّله ، ويهذّبه ويجوّده ، ليعظّم تأثير القرآن في قلوب سامعيه .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري : ( لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ) . iii . فقال أبو موسى الأشعري : يا رسول الله ، لو كنت أعلم أنك تسمع لحبّرته لك تحبيرا .
روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه : ( . . . فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس بين السماء والأرض فجئثت [ فزعت ] منه رعبا فرجعت فقلت زملوني زملوني فدثروني – وفي رواية - فزملوني ) فأنزل الله تعالى " يأيها المدثر " إلى " والرجز فاهجر " . وقال المفسرون : وعلى أثرها نزلت { يأيها المزمل }
{ يأيها المزمل } أي المتزمل في ثيابه ، المتلفف فيها ؛
نودي بذلك تأنيسا له وملاطفة ؛ على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من حالته التي هو عليها . يقال : زملته بثوبه تزميلا ؛ مثل لففته فتلفف .
سورة المزمل مكية وآياتها عشرون ، نزلت بعد سورة القلم . وقد سميت " سورة المزمل " بقوله تعالى { يا أيها المزمل } والمتزمل هو المتلفف بثيابه ، وهذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم . وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه ، فهو مخيّر بين هذه الثلاثة . وأمر بأن يرتل القرآن ترتيلا ، أي يقرأه بتؤدة وبيان وهدوء . وأخبره تعالى أنه سيُلقي عليه قولا ثقيلا ، أي قرآنا مشتملا على الأوامر والنواهي والتكاليف الشاقة ، وأن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتسبيح والتمجيد ، وأن يجرّد نفسه عما سواه . . ، ويتخذه وكيلا في كل أموره . . وأن يصبر على ما يقولون فيه وفي ربه من أقوال جارحة ( من أنه ساحر أو شاعر ، ومن أن الله له صاحبة وولد ) . كذلك طُلب إليه أن يهجر الكفار هجرا جميلا ، بمجانبتهم ومداراتهم . . ، ويكل أمرهم إلى الله ، وأن يتمهل زمانا قليلا فسيرى عاقبته وعاقبتهم .
وقد تلقى المؤمنون هذه الأوامر فكان الرجل يصلي الليل كله مخافة ألا يصيب ما أمر الله به من القيام . وكان إحصاء الليل شاقا عليهم ، إذ لم يكن عندهم ساعات يضبطون بها أوقاتهم ، فانتفخت أقدامهم من طول القيام . فخفّف الله عنهم ذلك وأمرهم بما تيسّر من صلاة الليل . ثم خفّّف ذلك كله وأمرهم بالصلوات الخمس ، لأن المسلمين منهم المريض والمسافر وغير ذلك . فالصلاة المفروضة كافية للأمة مع إيتاء الزكاة وإدامة استغفار الله والصدقة { فاقرأوا ما تيسّر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } .
المزمل : المتلفف بثيابه ومثله المتزمل ، يقال ازَّمَّل وتزمل بثوبه التفّ به وتغطى ، وزمَّل غيره إذا غطاه . .
هذه الآية والآياتُ التي بعدها من أولِ ما نزلَ من الوحي على الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم ، وقد روي في الأحاديث الصحيحة أنه لما جاءه جبريلُ وهو في غار حِراء في أول الوحي خافه الرسول ، وظنّ أن به هو مسّاً من الجنّ ، فرجع من غار حِراء مرتعِدا يرجُف فؤادُه ، فقال لأهله : زمِّلوني زملوني ، لقد خشيتُ على نفسي . وأخبر خديجةَ الخبر . فنزلت هذه الآياتُ :
{ يا أيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } .
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها واصبر على ما يقولون والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى أن ربك يعلم إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عز وجل هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفي اتصال أولها قم الليل الخ بقوله تعالى في آخر تلك وأنه لما قام عبد الله يدعوه وبقوله سبحانه وأن المساجد لله الآية .
{ المزمل } أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرأ أبي على الأصل وعكرمة المزمل بتخفيف الزاي وكسر الميم أي المزمل جسمه أو نفسه وبعض السلف المزمل بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القرآت فإنه عليه الصلاة والسلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله غيره ولا حاجة إلى أن يقال أنه صلى الله عليه وسلم زمل نفسه أولاً ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولاً ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال زملوني زملوني فنزلت { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] وعلى أثرها نزلت يا أيها المزمل وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسماً تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا أيها المزمل يا أيها المدثر ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب قم أبا تراب قصداً لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطاً له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل
: وكل ما يفعل المحبوب محبوب *** وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة والسلام نودي بذلك تهجيناً للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادى عليه كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة والسلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو من لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعداً لما وعده تعالى بقوله سبحانه : { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] ولا يربأ برسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى : { عَبَسَ وتولى } [ عبس : 1 ] ومثل هذا من خطاب الإدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن يا أيها النبي يا أيها الرسول من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفي أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلى الله عليه وسلم متزملاً بمرط لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناءً عليه وتحسيناً لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة والسلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بنى على عائشة رضي الله تعالى عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة أنها سئلت ما كان تزميله صلى الله عليه وسلم قالت كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعراً ولحمته وبراً وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة والسلام عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلى الله عليه وسلم نعم دل على أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه علي الخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبي عليه الصلاة والسلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل هذه الاحتمالات لا يكتفي بها بل قال أبو حيان أنه كذب صريح وعن قتادة كان صلى الله عليه وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي بيا أيها المزمل على معنى يا أيها المستعد للعبادة وقال عكرمة المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظاً ومعنى ويقال ازدمله أي احتمله وفيه تشبيه أجراه مراسم النبوة بتحمل الحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل .
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا }
المزمل : المتغطي بثيابه كالمدثر ، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته ، وابتدأه بإنزال [ وحيه بإرسال ] جبريل إليه ، فرأى أمرا لم ير مثله ، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون ، فاعتراه في ابتداء ذلك{[1258]} انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام ، فأتى إلى أهله ، فقال : " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه ، ثم جاءه جبريل فقال : " اقرأ " فقال : " ما أنا بقارئ " فغطه حتى بلغ منه الجهد ، وهو يعالجه على القراءة ، فقرأ صلى الله عليه وسلم ، ثم ألقى الله عليه الثبات ، وتابع عليه الوحي ، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين .
فسبحان الله ، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها ، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره .