وكذلك دلاله الآية التالية ، وتفصيل صفات النساء اللواتي يمكن أن يبدل الله النبي بهن من أزواجه ولو طلقهن . مع توجيه الخطاب للجميع في معرض التهديد :
( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ، مؤمنات ، قانتات ، تائبات ، عابدات ، سائحات ، ثيبات وأبكارا ) . .
وهي الصفات التي يدعوهن إليها عن طريق الإيحاء والتلميح .
الإسلام الذي تدل عليه الطاعة والقيام بأوامر الدين . والإيمان الذي يعمر القلب ، وعنه ينبثق الإسلام حين يصح ويتكامل . والقنوت وهو الطاعة القلبية . والتوبة وهي الندم على ما وقع من معصية والاتجاه إلى الطاعة . والعبادة وهي أداة الاتصال بالله والتعبير عن العبودية له . والسياحة وهي التأمل والتدبر والتفكر في إبداع الله والسياحة بالقلب في ملكوته . وهن - مع هذه الصفات - من الثيبات ومن الأبكار . كما أن نساءه الحاضرات كان فيهن الثيب وفيهن البكر .
وهو تهديد لهن لا بد كان له ما يقتضيه من تأثير مكايداتهن في قلب رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] وما كان ليغضب من قليل !
وقد رضيت نفس النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد نزول هذه الآيات ، وخطاب ربه له ولأهل بيته . واطمأن هذا البيت الكريم بعد هذه الزلزلة ، وعاد إليه هدوؤه بتوجيه الله سبحانه . وهو تكريم لهذا البيت ورعاية تناسب دوره في إنشاء منهج الله في الأرض وتثبيت أركانه .
وبعد فهذه صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمة ، وإقامة دولة ، على غير مثال معروف ، وعلى غير نسق مسبوق . أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة ، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربانيا ، في صورة واقعية يتأسى بها الناس .
وهي صورة من حياة إنسان كريم رفيع جليل عظيم . يزاول إنسانيته في الوقت الذي يزاول فيه نبوته . فلا تفترق هذه عن تلك ؛ لأن القدر جرى بأن يكون بشرا رسولا ، حينما جرى بأن يحمله الرسالة الأخيرة للبشر أو منهج الحياة الأخير .
إنها الرسالة الكاملة يحملها الرسول الكامل . ومن كمالها أن يظل الإنسان بها إنسانا . فلا تكبت طاقة من طاقاته البانية ، ولا تعطل استعدادا من استعداداته النافعة ؛ وفي الوقت ذاته تهذبه وتربيه ، وترتفع به إلى غاية مراقيه .
وكذلك فعل الإسلام بمن فقهوه وتكيفوا به ، حتى استحالوا نسخا حية منه . وكانت سيرة نبيهم وحياته الواقعية ، بكل ما فيها من تجارب الإنسان ، ومحاولات الإنسان ، وضعف الإنسان ، وقوة الإنسان ، مختلطة بحقيقة الدعوة السماوية ، مرتقية بها خطوة خطوة - كما يبدو في سيرة أهله وأقرب الناس إليه - كانت هي النموذج العملي للمحاولة الناجحة ، يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الميسرة العملية الواقعية ، التي لا تعيش في هالات ولا في خيالات !
وتحققت حكمة القدر في تنزيل الرسالة الأخيرة للبشر بصورتها الكاملة الشاملة المتكاملة . وفي اختيار الرسول الذي يطيق تلقيها وترجمتها في صورة حية . وفي جعل حياة هذا الرسول كتابا مفتوحا يقرؤه الجميع . وتراجعه الأجيال بعد الأجيال . . .
ثم خوفهما أيضا ، بحالة تشق على النساء غاية المشقة ، وهو الطلاق ، الذي هو أكبر شيء عليهن ، فقال :
{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } أي : فلا ترفعن عليه ، فإنه لو طلقكن ، لم يضق{[1161]} عليه الأمر ، ولم يكن مضطرًا إليكن ، فإنه سيلقى{[1162]} ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن ، دينا وجمالًا ، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد ، ولا يلزم وجوده ، فإنه ما طلقهن ، ولو طلقهن ، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات ، الجامعات بين الإسلام ، وهو القيام بالشرائع الظاهرة ، والإيمان ، وهو : القيام بالشرائع الباطنة ، من العقائد وأعمال القلوب .
القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها { تَائِبَاتٍ } عما يكرهه الله ، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله ، والتوبة عما يكرهه الله ، { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أي : بعضهن ثيب ، وبعضهن أبكار ، ليتنوع صلى الله عليه وسلم ، فيما يحب ، فلما سمعن -رضي الله عنهن- هذا التخويف والتأديب ، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن ، فصرن أفضل نساء المؤمنين ، وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور ، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دل على أنهن خير النساء وأكملهن .
{ عسى ربه إن طلقكن } أي : واجب من الله إن طلقكن رسوله ، { أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات } خاضعات لله بالطاعات ، { مؤمنات } مصدقات بتوحيد الله ، { قانتات } طائعات ، وقيل : داعيات . وقيل : مصليات ، { تائبات عابدات سائحات } صائمات ، وقال زيد بن أسلم : مهاجرات وقيل : يسحن معه حيث ما ساح ، { ثيبات وأبكاراً } وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال : { إن طلقكن } وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }( محمد- 38 ) وهذا في الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما حذر بما تقدم ، زاد في التحذير ما{[66410]} يقطع القلوب لأن{[66411]} أشد ما على المرأة أن تطلق ثم إذا طلقت أن تستبدل بها ثم أن يكون البدل خيراً منها فقال مبيناً لأدنى أنواع المظاهرة سائقاً الأمر مساق الرجاء إشارة إلى أنه يكفي العاقل في الخوف تجويز{[66412]} احتمال الضرر فكيف إذا كان الأمر حتماً لأن من المعلوم أن " عسى " من الله على طريق الكبراء لا سيما الملوك في اكتفائهم بالإشارات والرموز فمن{[66413]} هنا كانت واجبة لأنه ملك الملوك وهو ذو الكبرياء في الحقيقة لا غيره { عسى ربه } أي المحسن إليه بجميع {[66414]}أنواع الإحسان{[66415]} التي عرفتموها {[66416]}وما لم تعرفوه{[66417]} جدير{[66418]} وحقيق ، ووسط بينها وبين خبرها اهتماماً وتخويفاً قوله : { إن طلقكن } أي بنفسه من غير اعتراض عليه جمع أو بعضكن بإيجاد الطلاق لمن لم يطلقها وإدامته{[66419]} من طلقها { أن يبدّله } منكن بمجرد طلاقه لكن من غير أن تحوجه إلى التفتيش{[66420]} تبديلاً مبالغاً فيه بما أشارت إليه قراءة نافع وأبي جفعر وأبي عمرو بالتشديد{[66421]} ، فهي أبلغ من قراءة الباقين بالتخفيف الدال على مطلق الإبدال الصالح للمبالغ فيه وغيره ، ومن التشريف أيضاً إضافة الطلاق إليه{[66422]} والإبدال إلى{[66423]} الله مع التعبير{[66424]} بصفة الإحسان وتخصيص الإضافة ! بضميره .
ولما كان الأوجع لقب الحرة حرة مثلها لا سرية قال : { أزواجاً } ولما كان علوها عليها في الرتبة هو النهاية في التأسيف{[66425]} قال : { خيراً } ودل على أنها للتفضيل بقوله : { منكن } وهذا على سبيل الفرض وعام في الدنيا والآخرة فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقاً وإن قيل بوجوده في خديجة رضي الله عنها لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صلى الله عليه وسلم وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً النهاية القصوى ومريم عليها السلام التي أحصنت فرجها{[66426]} حتى كانت من القانتين ، وذلك في الآخرة ، والكلام خارج مخرج الشرط بالطلاق وقد علم سبحانه أنه لا يقع لكنه{[66427]} سبحانه علم أنه لو وقع أبدله صلى الله عليه وسلم من هو بالصفات المذكورة المقتضية للإخلاص في طاعته كما أشار إليه{[66428]} " قانتات " ولا شك أن من لازم طاعته وقيد الاتصال به في الدارين كان خيراً من غيره ، وتعليق تطليق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة رضي الله عنها فقد{[66429]} روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً من الله تعالى لأن الله تعالى أمره بأن{[66430]} يراجعها لأنها{[66431]} صوامة قوامه - والله الموفق . ولما وعد بما ذكر ، وكان أول منظور إليه{[66432]} الظاهر ، فصل ذلك الوعد وفسر الخيرية بادئاً بقوله : { مسلمات } أي ملقيات لجميع قيادهن ظاهراً وباطناً لله ولرسوله{[66433]} صلى الله عليه وسلم على وجه الخضوع .
ولما كان المشاهد من الإسلام إنما هو الظاهر قال : { مؤمنات } أي راسخات في القوة العلمية بتصديق الباطن .
ولما كان ذلك قد يكون فيه نوع شوب قال : { قانتات } أي مخلصات في ذلك لا شائبة في شيء منه فهن في غاية ما يكون من إدامة الطاعة له من الذل والانكسار والمبادرة إلى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره .
ولما كان الإنسان مجبولاً على النقصان ، وكان الإخلاص يدل صاحبه على تقصيره{[66434]} فكان ربما فتره ذلك ، قال تسهيلاً لخدمته وتقريباً لدوام طاعته معلماً الأدب لمحتاجه { تائبات } أي راجعات من الهفوات أو الزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من{[66435]} ذلك . ولما كان هذا مصححاً للعبادة مسهلاً لدوامها قال : { عابدات } أي مديمات للعبادة بسبب إدامة تجديد التوبة . ولما كان دوام العبادة مسهلاً للخروج عن الدنيا قال : { سائحات } أي{[66436]} متصفات بصفات الملائكة من التخلي عن الدنيا والاستغراق في الآخرة بما أدناه الصيام ماضيات في ذلك غاية المضاء ليتم الانقياد لله ولرسوله{[66437]} صلى الله عليه وسلم ، لأن من كان هكذا لم يكن له مراد ، فكان تابعاً لربه في أمره{[66438]} دائماً و{[66439]}يصير لطيف الذات حلو الشمائل ، قال الملوي : والمرأة إذا كانت كثيرة الصيام قليلة الأكل يقل عرقها ويصغر كرشها وتلطف{[66440]} رائحتها وتخف حركتها لما يراد منها - انتهى . وسوق هذه الأوصاف هذا السياق في عتاب من هو متصف بها معرف أن المراد منها التمام لا سيما وهي لا يوجد وصف{[66441]} منها على سبيل الرسوخ إلا{[66442]} كان مستلزماً لسائرها ، فلذلك لم يحتج في تعدادها إلى العطف بالواو . والتجريد عنه أقعد في الدلالة على إرادة اجتماعها كلها .
ولما أكمل الصفات الدينية النافعة في أمر العشرة ولم يبق إلا الصفات الكونية وكان التنويع إلى عارفة بالعشرة وباقية على أصل الفطرة ، ألذ وأشهى إلى النفس ، قال مقسماً للنساء المتصفات بالصفات الست عاطفاً ثاني{[66443]} الوصفين بالواو للتضاد { ثيبات } قدمهن لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها { {[66444]}وأبكاراً{[66445]} } .
{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ( 5 ) }
عسى ربُّه إن طلقكنَّ- أيتها الزوجات- أن يزوِّجه بدلا منكن زوجات خاضعات لله بالطاعة ، مؤمنات بالله ورسوله ، مطيعات لله ، راجعات إلى ما يحبه الله مِن طاعته ، كثيرات العبادة له ، صائمات ، منهنَّ الثيِّبات ، ومنهن الأبكار .
قوله : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا } وهذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم – وفيه تخويف لنسائه – بأنه لو طلقهن فإنه مزوّجه في الدنيا نساء خيرا منهن { مسلمات } وذلك وصف للأزواج اللواتي هن خير من نسائه فهن { مسلمات } . أي ممتثلات أمره وأمر رسوله { مؤمنات } أي مخلصات موقنات مصدقات بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره { قانتات } أي طائعات ، من القنوت وهي الطاعة { تائبات } أي منيبات إلى الله تائبات من الذنوب { عابدات } أي يكثرن العبادة لله بدوام ذكره وتوحيده والعمل بأوامره { سائحات } أي صائمات { ثيبات وأبكار } ثيبات ، جمع ثيب ، وهي المرأة المدخول بها ، وأبكارا جمع بكر وهي العذراء {[4576]} .