في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

6

( ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ، والله على كل شيء قدير ) .

والإيجاف : الركض والإسراع . والركاب : الجمال . والآية تذكر المسلمين أن هذا الفيء الذي خلفه وراءهم بنو النضير لم يركضوا هم عليه خيلا ، ولم يسرعوا إليه ركبا ، فحكمه ليس حكم الغنيمة التي أعطاهم الله أربعة أخماسها ، واستبقى خمسها فقط لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، كما حكم الله في غنائم بدر الكبرى . إنما حكم هذا الفيء أنه كله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه . وذو القربى المذكورون في الآيتين هم قرابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن كانت الصدقات لا تحل لهم ، فليس لهم في الزكاة نصيب ، وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء . وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم . فجعل لهم من خمس الغنائم نصيبا ، كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا . فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] هو المتصرف فيها .

هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات . ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة . إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة : ( ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ) . . فهو قدر الله . وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء . ( والله على كل شيء قدير ) . .

بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر ؛ ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار . ويتبين أنهم - ولو أنهم بشر - متصلون بإرادة الله ومشيئته اتصالا خاصا ، يجعل لهم دورا معينا في تحقيق قدر الله في الأرض ، بإذن الله وتقديره . فما يتحركون بهواهم ، وما يأخذون أو يدعون لحسابهم . وما يغزون أو يقعدون ، وما يخاصمون أو يصالحون ، إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض . والله هو الفاعل من وراء ذلك كله . وهو على كل شيء قدير . .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : من أهل هذه القرية ، وهم بنو النضير .

{ ف } إنكم يا معشر المسلمين { ما أَوْجَفْتُمْ } أي : ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم ، { عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } أي : لم تتعبوا بتحصيلها ، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم ، بل قذف الله في قلوبهم الرعب ، فأتتكم صفوا عفوا ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من تمام قدرته أنه لا يمتنع منه{[1033]}  ممتنع ، ولا يتعزز من دونه قوي ، وتعريف الفيء في اصطلاح الفقهاء : هو ما أخذ من مال الكفار بحق ، من غير قتال ، كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من المسلمين ، وسمي فيئا ، لأنه رجع من الكفار الذين هم غير مستحقين له ، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر فيه .


[1033]:- في ب: عليه
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله } أي رده على رسوله . يقال : فاء يفيء أي رجع ، وفاءها الله { منهم } أي من يهود بني النضير ، { فما أوجفتم } أوضعتم ، { عليه من خيل ولا ركاب } يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجيفاً وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير ، وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم . وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم ، كما فعل بغنائم خيبر ، فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلاً ولا ركاباً ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حرباً ، { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير } فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم ، فلبث يرفأ قليلاً ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي يستأذنان ؟ قال : نعم ، فأذن لهما فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، -وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير- فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر ، قال : اتئدوا ، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة . يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس ، فقال أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : نعم ، قال : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، فقال : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } إلى قوله : { قدير } ، وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر رضي الله عنه فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنتم حينئذ جميع ، وأقبل على علي وعباس : تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة ، وأمركما جميع فقلت لكما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وبما عملت به فيها منذ وليتها ، وإلا فلا تكلماني فيها ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما ؟ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

ابن العربي: روى ابن القاسم، وابن وهب عن مالك في قوله تعالى: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} هي النضير، لم يكن فيها خمس، ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب؛ كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار: أبي دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذي ردّه الله على رسوله منهم، يعني من أموال بني النضير. يقال منه: فاء الشيء على فلان: إذا رجع إليه، وأفأته أنا عليه: إذا رددته عليه...

(فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) يقول: فما أوضعتم فيه من خيل ولا إبل وهي الركاب. وإنما وصف جلّ ثناؤه الذي أفاءه على رسوله منهم بأنه لم يوجف عليه بخيل من أجل أن المسلمين لم يلقوا في ذلك حربًا، ولا كلفوا فيه مئونة، وإنما كان القوم معهم، وفي بلدهم، فلم يكن فيه إيجاف خيل ولا ركاب... عن الزهري، في قوله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) قال: صالح النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أهل فدك وقرى قد سماها لا أحفظها، وهو محاصر قومًا آخرين، فأرسلوا إليه بالصلح، قال: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) يقول: بغير قتال. قال الزهريّ: فكانت بنو النضير للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالصة لم يفتحوها عنوة، بل على صلح، فقسمها النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بين المهاجرين لم يعط الأنصار منها شيئًا، إلا رجلين كانت بهما حاجة...

وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أعلمك أنه كما سلَّط محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على بني النضير، يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله عليه من أموال لم يُوجف المسلمون بالخيل والركاب، من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى. يقول: فمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح لا عنوة، فتقع فيها القسمة.

(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يُعجزه شيء، وبقُدرته على ما يشاء سلَّط نبيه محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ما سلط عليه من أموال بني النضير، فحازه عليهم.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

والإيجاف: الإيضاع في السير وهو الإسراع...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى: أنّ ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوّض إليه يضعه حيث يشاء، يعني: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً، وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

المسألة الْأُولَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ}: يُرِيدُ مَا رَدَّ اللَّهُ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ من اللَّهِ بِالذُّنُوبِ عَدْلًا، فَإِذَا رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ من أَيْدِيهِمْ رَجَعَتْ فِي طَرِيقِهَا ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ فَيْئًا.

...

...

...

...

...

...

.

المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا لِرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا كَانَ بِرُعْبٍ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ، دُونَ عَمَلٍ من النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا سَفَرًا، وَلَا تَجَشَّمُوا رِحْلَةً، وَلَا صَارُوا عَنْ حَالَةٍ إلَى غَيْرِهَا، وَلَا أَنْفَقُوا مَالًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِهِ بِذَلِكَ الْفَيْءِ، وَأَفَادَ الْبَيَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ من النَّاسِ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ لَغْوٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَخْصُوصًا بِهَا...

المسألة الرَّابِعَةُ: تَمَامُ الْكَلَامِ: فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَحُذِفَتْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت الغنائم التي تقسم بين الجيش إنما هي ما قاتلوا عليه، وأما ما أتى منها بغير قتال فهو فيء يأخذه الإمام فيقسمه خمسة أخماس، ثم يقسم خمساً منها خمسة أقسام، أحدها وهو كان للنبي صلى الله عليه وسلم، يكون بعده لمصالح المسلمين، والأقسام الأربعة الأخرى من هذا الخمس لمن ذكر في الآية بعدها، والأربعة الأخماس الكائنة من أصل القسمة وهي التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها حصلت بكفايته وإرعابه للعدو، تفرق بين المرتزقة من جميع النواحي، فكانت الأموال كلها لله إنعاماً على من يعبده بما شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، كانت أموال الكفار في أيديهم غصباً غصبوه من أوليائه، فخص سبحانه رسول صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير يضعها حيث يشاء لأنها فيء فقال: {وما أفاء الله} أي رد الملك الذي له الأمر كله رداً سهلاً بعد أن كان فيما يظهر في غاية العسر والصعوبة {على رسوله} فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفار عليه ظلماً وعدواناً كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظل إلى الناحية التي كان ابتدأ منها،... {منهم} أي رداً مبتدئاً من الفاسقين، فبين أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم عن غير وارث وكذا الجزية... ولما كان الحرب إنما هو كر وفر في إسراع وخفة ورشاقة بمخاتلة الفرسان ومراوغة الشجعان ومغاورة أهل الضرب والطعان، قال معللاً لكونه فيئاً: {فما أوجفتم} أي أسرعتم، وقال ابن إسحاق: حركتم واتبعتم في السير -انتهى، وذلك الإيجاف للغلبة {عليه} وأعرق في النفي بالجار فقال: {من خيل} وأكد بإعادة النافي لظن من ظن أنه غنيمة لإحاطتهم بهم فقال: {ولا ركاب} أي إبل، غلب ذلك عليها من بين المركوبات، ولا قطعتم من أجله مسافة، فلم تحصل لكم كبير مشقة في حوز أموالهم لأن قريتهم كانت في حكم المدينة الشريفة ليس بينها وبين ما يلي منها مسافة، بل هي ملاصقة لإحدى قرى الأنصار التي المدينة اسم لها كلها، وهي قرية بني عمرو بن عوف في قباء بينها وبين القرية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بها نحو ميلين،... فمشى الكل مشياً ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقاتلوا بها قتالاً بعد، فلذلك جعلها الله فيئاً ولم يجعلها غنيمة، فهي تقسم قسمة الفيء، لا قسمة الغنيمة، فخمسها لأهل خمس الغنيمة وهم الأصناف الخمسة المذكورون في الآية التي بعدها، وما فضل فهو الأربعة الأخماس له صلى الله عليه وسلم مضمومة إلى ما حازه من خمس الخمس...

ولما كان معنى هذا: فما كان التسليط بكم، استدرك بقوله: {ولكن الله} أي الذي له العز كله فلا كفوء له {يسلط رسله} أي له هذه السنة في كل زمن {على من يشاء} بجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه...

ولما كانت قدرته سبحانه عامة بالتسليط وغيره، أظهر ولم يضمر فقال: {والله} أي الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} أي أي شيء يصح أن تتعلق المشيئة به وهو كل ممكن من التسليط وغيره {قدير} أي بالغ القدرة إلى أقصى الغايات، والآية تدل على أن إيجاف الخيل والركاب وقصد العدو إلى الأماكن الشاسعة له وقع كبير في النفوس ورعب عظيم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فأما المقطع الثاني في السورة فيقرر حكم الفيء الذي أفاءه الله على رسوله في هذه الوقعة وفيما يماثلها، مما لم يتكلف فيه المسلمون غزوا ولا قتالا.. أي الوقائع التي تولتها يد الله جهرة ومباشرة وبدون ستار من الخلق كهذه الوقعة، وهذه الآيات التي تبين حكم الله في هذا الفيء وأمثاله، تحوي في الوقت ذاته وصفا لأحوال الجماعة المسلمة في حينها؛ كما تقرر طبيعة الأمة المسلمة على توالي العصور، وخصائصها المميزة التي تترابط بها وتتماسك على مدار الزمان، لا ينفصل فيها جيل عن جيل، ولا قوم عن قوم، ولا نفس عن نفس، في الزمن المتطاول بين أجيالها المتعاقبة في جميع بقاع الأرض. وهي حقيقة ضخمة كبيرة ينبغي الوقوف أمامها طويلا في تدبر عميق..

إنما حكم هذا الفيء أنه كله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والرسول [صلى الله عليه وسلم] هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه. وذو القربى المذكورون في الآيتين هم قرابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن كانت الصدقات لا تحل لهم، فليس لهم في الزكاة نصيب، وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء. وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم. فجعل لهم من خمس الغنائم نصيبا، كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا...

فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف. والرسول [صلى الله عليه وسلم] هو المتصرف فيها...

هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات. ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة. إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة: (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء).. فهو قدر الله. وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء. (والله على كل شيء قدير).. بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر؛ ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار. ويتبين أنهم -ولو أنهم بشر- متصلون بإرادة الله ومشيئته اتصالا خاصا، يجعل لهم دورا معينا في تحقيق قدر الله في الأرض، بإذن الله وتقديره. فما يتحركون بهواهم، وما يأخذون أو يدعون لحسابهم. وما يغزون أو يقعدون، وما يخاصمون أو يصالحون، إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض. والله هو الفاعل من وراء ذلك كله. وهو على كل شيء قدير...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقوله: {فما أوجفتم عليه} وهو بصريحه امتنان على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دون قتال...،والمعنى: فما هو من حقّكم، أو لا تسألوا قسمته لأنكم لم تنالوه بقتالكم، ولكن الله أعطاه رسوله صلى الله عليه وسلم نعمة منه بلا مشقة ولا نصَب.

وقوله: {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} استدراك على النفي الذي في قوله تعالى: {فما أوجفتم عليه} لرفع توهم أنه لا حقّ فيه لأحد. والمراد: أن الله سلط عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فالرسول أحق به.

وعموم {من يشاء} لشمول أنه يسلط رسله على مقاتلين ويسلطهم على غير المقاتلين. فتكون الآية تبييناً لما وقع في قسمة فيء بني النضير.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

فيه عشر مسائل :

الأولى- قوله تعالى : { وما أفاء الله } يعني ما رده الله تعالى { على رسوله } من أموال بني النضير ، { فما أوجفتم عليه } أوضعتم عليه . والإيجاف : الإيضاع في السير وهو الإسراع ، يقال : وجف الفرس إذا أسرع ، وأوجفته أنا أي حركته وأتعبته ، ومنه قول تميم بن مقبل :

مذاويدُ بالبِيض الحديث صقالُها *** عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا

والركاب الإبل ، واحدها راحلة . يقول : لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا ولا مشقة ، وإنما كانت من المدينة على ميلين ، قاله الفراء . فمشوا إليها مشيا ولم يركبوا خيلا ولا إبلا ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا وقيل حمارا مخطوما بليف ، فافتتحها صلحا وأجلاهم وأخذ أموالهم ، فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه } الآية . فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء ، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين . قال الواقدي : ورواه ابن وهب عن مالك ، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين ، منهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة . وقيل : إنما أعطى رجلين ، سهلا وأبا دجانة . ويقال : أعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق ، وكان سيفا له ذِكْرٌ عندهم . ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان : سفيان بن عمير ، وسعد بن وهب ، أسلما على أموالهما فأحرزاها .

وفي صحيح مسلم عن عمر قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فكان ينفق على أهله نفقة سنة ، وما بقي يجعله في الكراع{[14826]} والسلاح عدة في سبيل الله تعالى . وقال العباس لعمر - رضي الله عنهما - : اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن - يعني عليا رضي الله عنه - فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير ، فقال عمر : أتعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا نورث ما تركناه صدقة ) قالا : نعم . قال عمر : إن الله عز وجل كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة ولم يخصص بها أحدا غيره . قال : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } ( ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا ) فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير ، فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي أسوة المال . . . الحديث بطوله ، خرجه مسلم . وقيل : لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم فيها حظ كالغنائم ، فبين الله تعالى أنها فيء وكان جرى ثم بعض القتال ؛ لأنهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء . ولم يكن قتال على التحقيق ، بل جرى مبادئ القتال وجرى الحصار ، وخص الله تلك الأموال برسوله صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : أعلمهم الله تعالى وذكرهم أنه إنما نصر رسول صلى الله عليه وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة . { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } أي من أعدائه ، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه .


[14826]:قوله "في الكراع": في الدواب التي تصلح للحرب.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

ولما كانت الغنائم التي تقسم بين الجيش{[63742]} إنما هي ما قاتلوا عليه ، وأما ما أتى منها بغير قتال فهو فيء يأخذه الإمام فيقسمه{[63743]} خمسة أخماس ، ثم يقسم خمساً منها{[63744]} خمسة أقسام{[63745]} ، أحدها وهو كان للنبي صلى الله عليه وسلم يكون بعده لمصالح المسلمين ، والأقسام الأربعة الأخرى{[63746]} من هذا الخمس لمن ذكر في الآية بعدها ، والأربعة الأخماس الكائنة من أصل القسمة{[63747]} وهي التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها حصلت بكفايته وإرعابه للعدو ، تفرق بين المرتزقة من جميع النواحي ، فكانت الأموال كلها لله{[63748]} إنعاماً على من يعبده بما شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام ، كانت أموال الكفار في أيديهم غصباً غصبوه من أوليائه ، فخص سبحانه رسول صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير يضعها حيث يشاء لأنها فيء فقال : { وما أفاء الله } أي رد الملك الذي له الأمر كله رداً سهلاً بعد أن كان فيما يظهر في غاية العسر والصعوبة { على رسوله } فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفار عليه ظلماً وعدواناً كما دل عليه التعبير بالفيء{[63749]} الذي هو عود الظل إلى الناحية التي كان ابتدأ منها ، { منهم } أي رداً مبتدئاً من الفاسقين ، فبين أن هذا فيء لا غنيمة ، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم عن غير وارث وكذا الجزية ، وأما الغنيمة فهي ما كان{[63750]} بقتال وإيجاف خيل وركاب .

ولما كان الحرب إنما هو كر وفر في إسراع وخفة ورشاقة بمخاتلة{[63751]} الفرسان ومراوغة الشجعان ومغاورة أهل الضرب والطعان{[63752]} ، قال معللاً لكونه فيئاً : { فما أوجفتم } أي أسرعتم ، وقال ابن إسحاق : حركتم واتبعتم في السير - انتهى ، وذلك الإيجاف للغلبة { عليه } وأعرق في النفي بالجار فقال :{ من خيل } وأكد بإعادة النافي لظن من ظن أنه غنيمة لإحاطتهم بهم فقال :{ ولا ركاب } أي إبل ، غلب ذلك عليها نم بين المركوبات ، ولا قطعتم من أجله مسافة ، فلم تحصل لكم كبير مشقة في حوز أموالهم لأن{[63753]} قريتهم كانت في حكم المدينة الشريفة ليس بينها وبين ما يلي منها مسافة بل هي ملاصقة لإحدى قرى الأنصار التي المدينة اسم لها كلها ، وهي قرية بني{[63754]} عمرو بن عوف في قباء بينها{[63755]} وبين القرية التي{[63756]} كان{[63757]} رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بها نحو ميلين ، فمشى الكل مشياً ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقاتلوا بها قتالاً بعد ، فلذلك جعلها الله فيئاً ولم يجعلها غنيمة ، فهي تقسم قسمة الفيء ، لا قسمة الغنيمة ، فخمسها لأهل خمس الغنيمة وهم{[63758]} الأصناف الخمسة المذكورون في الآية التي بعدها ، وما فضل فهو الأربعة الأخماس له صلى الله عليه وسلم مضمومة إلى ما حازه من خمس الخمس .

ولما كان معنى هذا : فما كان التسليط بكم ، استدرك بقوله : { ولكن الله } أي الذي له العز كله فلا كفوء له { يسلط رسله } أي له هذه السنة في كل زمن { على من يشاء } بجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه ، فهو الذي سلط رسوله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء بأن ألقى في روعه الشريف أن يذهب إليهم فيسألهم الإعانة في دية العامريين اللذين قتلهما{[63759]} عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه خطأ ، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب بيت من بيوتهم ، وكانوا موادعين له صلى الله عليه وسلم نقضوا عهدهم خفية مكراً منهم بعد أن رحبوا به ووعدوه الإعانة وأمروا أحدهم أن يرمي عليه من فوق السطح صخرة لتقتله ، فأعلمه الله{[63760]} بهذا فذهب وترك أصحابه{[63761]} هناك حتى لحقوا به ، وهذا بعد ما كان حيي فعل من قدومه مكة وندمه لقريش إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم{[63762]} ومعاقدته لهم{[63763]} على أن{[63764]} يكون معهم{[63765]} عليه الصلاة والسلام ، وإعلام الله بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم بعد{[63766]} ما أصبح أنكم قد{[63767]} خنتم الله ورسوله ، فأردتم أن تفعلوا كذا ، وأن الأرض لله ورسوله ، فاخرجوا منها وقد أجلتكم عشراً ، فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون ودس إليهم ابن أبي ومن معه{[63768]} من المنافقين أنهم معهم في الشدة والرخاء لا يسلمونهم ، وقال ابن أبي : معي ألفان من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم فيموتون من عند آخرهم ، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم{[63769]} من غطفان فطمع حيي بن أخطب في ذلك فأرسل إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع{[63770]} ما بدا لك ، فقصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين يحمل رايته علي بن أبي طالب رضي الله عنه فصلى العصر بفنائهم بعد أن استعمل على المدينة ابن أم{[63771]} مكتوم رضي الله عنه وأقام عليهم ست ليال وهم متحصنون ، فقطع من نخلهم وحرق{[63772]} فنادوه أن قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بالك تقطع النخل ، وتربصوا نصر ابن أبي ومن معه على ما قالوا فلم يفوا لهم ، فألقى الله الرعب في قلوبهم فأرسلوا بالإجابة ، فقال : لا إلا أن يكون لي{[63773]} سلاحكم وما لم تقدروا على حمله على إبلكم من أموالكم ، فتوقفوا ثم أجابوا فحملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل إلا الحلقة ، وذهبوا على ستمائة بعير ، وأظهروا الحلي و{[63774]}الحلل وأبدى نساؤهم زينتهن فلحق بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام وخلوا الأموال والحلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم منهم إلا رجلان يامين{[63775]} بن عمرو وأبو سعد{[63776]} بن وهب ، أسلما على أموالهما فأحرزاها{[63777]} فجعل الله أموال من لم يسلم منهم فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة به يضعها حيث يشاء كما روي ذلك في الصحيح عن عمر رضي الله عنه في قصة مخاصمة علي والعباس رضي الله عنهما ، وفيه أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم فإنه قال : إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ { ما أفاء الله على رسوله منهم } إلى قوله تعالى : { قدير } فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم{[63778]} والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثها{[63779]} فيكم حتى بقي{[63780]} منها هذا المال - يعني الذي وقع خصامهما فيه ، فكان ينفق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله ، وفي الصحيح{[63781]} أيضاً عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق على أهله{[63782]} منها نفقة سنة{[63783]} ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة{[63784]} في سبيل الله - انتهى ، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم بعد ما تركه لنفسه{[63785]} بين المهاجرين ، لم يعط الأنصار منه شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة شديدة : أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث ابن الصمة رضي الله عنهم ، وكان لسيف ابن أبي الحقيق عندهم ذكر فنفله سعد بن معاذ رضي الله عنه{[63786]} ، وقال الأصبهاني : إن الفيء كان يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهماً أربعة أخماسها وهي عشرون سهماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها{[63787]} ما يشاء ويحكم فيها ما أراد ، والخمس الباقي على ما يقسم{[63788]} عليه خمس{[63789]} الغنيمة - يعني على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذوي القربى ومن بعدهم ، هكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في صفاياه ، فلما توفي كانت إلى إمام المسلمين وكذا جميع ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم{[63790]} لأنه قال :

( لا نورث{[63791]} ، ما تركناه صدقة ) . فولي ذلك أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ، فكانا يفعلان فيها{[63792]} ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الأصبهاني رضي الله عنه أيضاً عن مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء }[ التوبة : 60 ] حتى بلغ { {[63793]}عليم حكيم{[63794]} } ثم قال : هذه لهؤلاء ثم قرأ { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }[ الأنفال : 41 ] ثم قال هذه لهؤلاء ، ثم قرأ{[63795]}{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }[ الحشر : 7 ] حتى بلغ { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا . . . . . والذين تبوءوا الدار والإيمان . . . . . . والذين جاؤوا من بعدهم }[ الحشر : 7 ، 8 ، 9 ] ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة فليس أحد إلا له فيها حق ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي نصيبه منه لم يعرف جبينه فيه - {[63796]}انتهى .

وقال ابن عطية : ما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير ومن فدك فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن هذه الأموال التي هي فيء كبقية الفيء يقسم على خمسة{[63797]} أسهم : خمس{[63798]} منها للأصناف المذكورة أولها النبي صلى الله عليه وسلم وأربعة أخماسها له صلى الله عليه وسلم وحده ، وأجاب الشافعي عن قول عمر رضي الله عنه ، " فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة " بأنه عام أريد به الخاص ، ومعناه ، فكان ما بقي منها في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعطاء الخمس لأربابه خاصاً به صلى الله عليه وسلم ، لا يشك أحد في خصوصيته به ، ثم إنه مع ذلك ما احتازه{[63799]} دونهم بل كان يفعل ما ذكر في الحديث من الإيثار ، قال الشافعي رضي الله عنه : لأنا لا{[63800]} نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأصناف المذكورين في الآية منها حقهم وقد عهدنا أن حق هؤلاء الأصناف من مال المشركين الخمس كما هو صريح في سورة الأنفال ، {[63801]}واستفيد{[63802]} من قول عمر رضي الله عنه " إنها كانت للنبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان له ما كان يشترك{[63803]} فيه المسلمون{[63804]} من الخمس من الغنيمة التي حصلت بما حصل للكفار من الرعب منهم ، والذي كان يشترك فيه المسلمون بعد الخمس هو {[63805]}أربعة الأخماس{[63806]} والنبي صلى الله عليه وسلم قام مقام المسلمين فيه إذ هم{[63807]} لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ، وإنما حصل ذلك بالرعب الذي ألقاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في قلوب المشركين ، فكانت الأربعة الأخماس تختص ممن كان السبب في حصول الجميع كما في الغنيمة ، فعلى هذا الفيء الغنيمة لا يختلفان في أن الأربعة الأخماس تختص لمن كان السبب في حصول الجميع{[63808]} وأن خمس المالين يكون للأصناف المذكورة{[63809]} ، والذي كان له صلى الله عليه وسلم من الفيء من الأربعة الأخماس يكون بعد موته صلى الله عليه وسلم للمقاتلة لأنه حصل بالرعب الحاصل للكفار{[63810]} منهم كأربعة أخماس الغنيمة التي حصلت بقتالهم .

ولما كانت قدرته سبحانه عامة بالتسليط وغيره ، أظهر ولم يضمر فقال : { والله } أي الملك الذي له الكمال كله { على كل شيء } أي أي شيء{[63811]} يصح أن تتعلق المشيئة به وهو كل ممكن من التسليط وغيره { قدير * } أي بالغ القدرة إلى أقصى الغايات ، والآية تدل على أن إيجاف الخيل والركاب وقصد العدو إلى الأماكن الشاسعة له وقع كبير في النفوس ورعب{[63812]} عظيم .


[63742]:- زيد في الأصل: وغيره، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63743]:- من ظ وم، وفي الأصل: ويقسمه.
[63744]:- من ظ، وفي الأصل وم: منه.
[63745]:- من ظ وم، وفي الأصل: أخماس.
[63746]:-زيد من ظ وم.
[63747]:-من م، وفي الأصل وظ: الغنيمة.
[63748]:- زيد في الأصل: أنواعا، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63749]:- من ظ وم، وفي الأصل: في الفيء.
[63750]:- من م، وفي الأصل وظ: كانت.
[63751]:- من ظ وم، وفي الأصل: لمخاللة.
[63752]:- من م، وفي الأصل وظ: الطغيان.
[63753]:- من ظ وم، وفي الأصل: لا.
[63754]:- من ظ وم، وفي الأصل: بين.
[63755]:- من ظ وم، وفي الأصل: بينهما.
[63756]:- زيد من ظ و م.
[63757]:- زيد بعده في الأصل وظ: فيها، ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[63758]:- من ظ وم، وفي الأصل: هي.
[63759]:-من م، وفي الأصل وظ: قبلم.
[63760]:- زيد من م.
[63761]:- زيد في م من.
[63762]:- في ظ: معاقدتهم له.
[63763]:- في ظ: معاقدتهم له.
[63764]:- من ظ وم، وفي الأصل: يكونوا معه.
[63765]:- من ظ وم، وفي الأصل: يكونوا معه.
[63766]:- في م: عند.
[63767]:- زيد من ظ وم.
[63768]:- من ظ و م، وفي الأصل: معهم.
[63769]:- من ظ وم، وفي الأصل: خلفاؤهم.
[63770]:- من ظ وم، وفي الأصل: فافعل.
[63771]:- زيد من ظ وم.
[63772]:- زيد من م.
[63773]:- زيد من م.
[63774]:- من ظ وم، وفي الأصل: من.
[63775]:- من م، وفي الأصل وظ: باس- كذا.
[63776]:- من م، وفي الأصل وظ: أبو سعيد.
[63777]:- من ظ وم، وفي الأصل: فاختارها.
[63778]:- زيد في الأصل: فقال، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63779]:- من ظ وم، وفي الأصل: منها.
[63780]:-من ظ وم، وفي الأصل: يبقى.
[63781]:- راجع 2/ 725.
[63782]:- زيد من ظ وم.
[63783]:- من ظ وم، وفي الأصل: ساعة.
[63784]:- من ظ وم، وفي الأصل: هذه.
[63785]:- من ظ وم، وفي الأصل: **
[63786]:- زيد من ظ وم.
[63787]:- من ظ وم، وفي الأصل: فيها.
[63788]:- من ظ وم، وفي الأصل: يحكم.
[63789]:- من ظ وم، وفي الأصل: خمسة.
[63790]:- زيد من ظ وم.
[63791]:- من ظ وم، وفي الأصل: يورث.
[63792]:زيد من ظ.
[63793]:- من ظ وم، وفي: حكيم عليم
[63794]:- من ظ وم، وفي الأصل: حكيم عليم.
[63795]:زيد من ظ وم.
[63796]:- ليس في ظ وم.
[63797]:- زيد من ظ وم.
[63798]:- من ظ وم، وفي الأصل: خمسة.
[63799]:- من ظ وم، وفي الأصل: اختاره.
[63800]:- في الأصل بياض ملأناه من ظ و م.
[63801]:- من م، وفي الأصل وظ: فاستفيد.
[63802]:- من م، وفي الأصل وظ: فاستفيد.
[63803]:- من ظ، وفي الأصل: وم: شرك.
[63804]:- زيد من ظ وم.
[63805]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأربعة أحماس.
[63806]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأربعة أحماس.
[63807]:- من ظ وم، وفي الأصل: هو.
[63808]:- زيد من ظ.
[63809]:- من م، وفي الأصل وظ: المذكورين.
[63810]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالرعب.
[63811]:- زيد من ظ وم.
[63812]:- من ظ وم، وفي الأصل: وقع.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (6)

قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير 6 ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .

يبين الله في هذه الآية حقيقة الفيء وحكمه ، فهو المال المأخوذ من الكافرين من غير قتال كأموال بني النضير فإن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ولم يقاتلوهم عليها بالمبارزة أو اللقاء ، بل خرج بنو النضير إلى الشام وخيبر بعد أن قذف الله في قلوبهم الرعب فتولوا تاركين وراءهم أموالهم . وبذلك لم يأخذها المسلمون بالحرب والقتال والشدة . فهذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها في وجوه الخير من مصالح المسلمين ويأخذ هو منها ما يكفيه وعياله قوت عامه . وهذا الضرب من المال المأخوذ ، بخلاف الغنائم التي يستولي عليها المسلمون بالحرب والقتال .