والجولة الثالثة - بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض - تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك :
( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . إنه كان حليماً غفوراً ) . .
ونظرة إلى السماوات والأرض ؛ وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود . وكلها قائمة في مواضعها ، تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها ، لا تختل ، ولا تخرج عنها ، ولا تبطىء أو تسرع في دورتها ، وكلها لا تقوم على عمد ، ولا تشد بأمراس ، ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك . . نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول .
ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها ، واختلت وتناثرت بدداً ، فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبداً . وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيراً لنهاية هذا العالم . حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر ؛ ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه .
وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا . والانتهاء إلى العالم الآخر ، الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافاً كاملاً .
ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله :
( حليماً )يمهل الناس ، ولا ينهي هذا العالم بهم ، ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم . ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد . ( غفوراً )لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا ، بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيراً . وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود .
{ 41 } { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
يخبر تعالى عن كمال قدرته ، وتمام رحمته ، وسعة حلمه ومغفرته ، وأنه تعالى يمسك السماوات والأرض عن الزوال ، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق ، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما .
ولكنه تعالى ، قضى أن يكونا كما وجدا ، ليحصل للخلق القرار ، والنفع ، والاعتبار ، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته ، ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالا وتعظيما ، ومحبة وتكريما ، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته ، بإمهال المذنبين ، وعدم معالجته للعاصين ، مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم ، ولو أذن للأرض لابتلعتهم ، ولكن وسعتهم مغفرته ، وحلمه ، وكرمه { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
ولما بين حقارة الأصنام وكل ما أشركوا به النسبة إلى جلال عظمته ، وكانوا لا يقدرون على ادعاء الشركة في الخلق في شيء من ذلك ، وكان ربما أقدم على ادعائه معاند منهم أو من غيرهم ، وكان الناس قد توصلوا إلى معرفة شيء من التغيرات الفلكية كالشروق والغروب والخسوف ، وكانوا لا علم لهم بشيء من الزلازل والزوال ، قال مبيناً عظمته سبحانه بعد تحقير أمر شركائهم معجزاً مهدداً لهم على إقدامهم على هذا الافتراء العظيم مبيناً للنعمة بعدم المعاجلة بالهلاك ، وأكده لأن من الناس المكذب به وهم المعطلة ، ومنهم من عمله - وإن كان مقراً - عمل المكذب وهو من ينكر شيئاً من قدرته كالبعث : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { يمسك السماوات } أي على كبرها وعلوها { والأرض } أي على سعتها وبعدها عن التماسك على ما يشاهدون إمساكاً مانعاً من { أن تزولا * } أي بوجه عظيمة وزلزلة كبيرة ، أو زوالاً لا تماسك معه لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته ، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق سبحانه .
ولما كان هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان ، أتبعه ما هو أبين منه ، فقال معبراً بأداة الإمكان : { ولئن زالتا } أي بزلزلة أو خراب { إن } أي ما { أمسكهما } وأكد استغراق النفي بقوله : { من أحد } ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من الأزمان وإن قل ، أثبت الجار فقال : { من بعده } أي بعد إزالته لهما ، بل وإذا زلزلت الأرض اضطرب كل شيء عليها والأصنام من جملته ، فدل ذلك قطعاً على أن الشركاء مفعولة لا فاعلة .
ولما كان السياق إلى الترغيب في الإقبال عليه وحده أميل منه إلى الترهيب ، وكان كأنه قيل : هو جدير بأن يزيلهما لعظيم ما يرتكبه أهلهما من الآثام وشديد الإجرام ، قال جواباً لذلك وأكده لأن الحكم عما يركبه المبطلون على عظمه وكثرتهم مما لا تسعه العقول : { إنه كان } أي أزلاً وأبداً { حليماً } أي ليس من شأنه المعاجلة بالعقوبة للعصاة لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرص ، ورغب في الإقلاع مشيراً إلى أنه ليس عنده ما عند حلماء البشر من الضيق الحامل لهم على أنهم إذا غضبوا بعد طول الأناة لا يغفرون بقوله : { غفوراً * } أي محاء لذنوب من رجع إليه ، وأقبل بالاعتراف عليه ، فلا يعاقبه ولا يعاتبه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.