في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

46

ويدع الجاحدين المكذبين المستهترين في مشهد العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ليلتفت إلى المؤمنين ، الذين يفتنهم أولئك المكذبون عن دينهم ، ويمنعونهم من عبادة ربهم . . يلتفت إليهم يدعوهم إلى الفرار بدينهم ، والنجاة بعقيدتهم . في نداء حبيب وفي رعاية سابغة ، وفي أسلوب يمس كل أوتار القلوب :

( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ، فإياي فاعبدون . كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، نعم أجر العاملين ، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . وكأي من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ، وهو السميع العليم . . )

إن خالق هذه القلوب ، الخبير بمداخلها ، العليم بخفاياها ، العارف بما يهجس فيها ، وما يستكن في حناياها . . إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب : يا عبادي الذين آمنوا : يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها ، لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها . بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها : ( يا عبادي ) . .

هذه هي اللمسة الأولى . واللمسة الثانية : ( إن أرضي واسعة ) . .

أنتم عبادي . وهذه أرضي . وهي واسعة . فسيحة تسعكم . فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق ، الذي تفتنون فيه عن دينكم ، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم ? غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة ، ناجين بدينكم ، أحرارا في عبادتكم ( فإياي فاعبدون ) .

إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة . ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين : بالنداء الحبيب القريب : ( يا عبادي )وبالسعة في الأرض : ( إن أرضي واسعة )وما دامت كلها أرض الله ، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

{ 56 - 59 } { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }

يقول تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بي وصدقوا رسولي { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض ، فارتحلوا منها إلى أرض أخرى ، حيث كانت العبادة للّه وحده ، فأماكن العبادة ومواضعها ، واسعة ، والمعبود واحد .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

قوله تعالى : " يا عباديَ الذين آمنوا إن أرضي واسعة " هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة - في قول مقاتل والكلبي - فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه ، وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب ، بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده ، أي إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة ؛ لإظهار التوحيد بها . وقال ابن جبير وعطاء : إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق وقاله مالك وقاله مجاهد : " إن أرضي واسعة " فهاجروا وجاهدوا ، وقال مطرف بن الشخير : المعنى إن رحمتي واسعة وعنه أيضا : إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض قال سفيان الثوري : إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها تملأ فيها جرابك خبزا بدرهم . وقيل : المعنى : إن أرضي التي هي أرضى الجنة الواسعة . " فاعبدون " حتى أورثكموها . " فاعبدون " " إياي " منصوب بفعل مضمر أي فاعبدوا إياي فاعبدون ، فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني والفاء في قوله : " فإياي " بمعنى الشرط أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني في غيره{[12419]} ؛ لأن أرضي واسعة .


[12419]:زيادة يقتضيها السياق.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

ولما أبلغ في الإنذار ، وحذر من الأمور الكبار ، ولم يهمل الإشارة إلى الصغار ، وكانت هذه الآيات في المتعنتين من الكفار ، وكان قد كرر أن هذه المواعظ إنما هي للمؤمنين ، قال مخاطباً لهم معرضاً عن سواهم إذ كانت أسماعهم لبليغ هذه المواعظ قد أصغت ، وقلوبهم لجليل هذه الإنذارات قد استيقظت ، التفاتاً على قراءة الجمهور إلى التلذيذ في المناجاة بالإفراد والإبعاد من مداخل التعنت : { يا عبادي } فشرفهم بالإضافة ، ولكنه لما أشار بأداة البعد إلى أن فيهم من لم يرسخ ، حقق ذلك بقوله : { الذين آمنوا } أي وإن كان الإيمان باللسان مع أدنى شعبة من القلب .

ولما كان نزول هذه السورة بمكة ، وكانوا بها مستخفين بالعبادة خوفاً من الكفار ، وكانت هجرة الأهل والأوطان شديدة ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن حال من ترك الهجرة حال من يظن أن الأرض ضيقة : { إن أرضي واسعة } أي في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق ، فإن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ويمنعونكم من الإخلاص إلي في أرضكم والاجتهاد في عبادتي حتى يصير الإيمان لكم وصفاً ، فهاجروا إلى أرض تتمكنون فيها من ذلك .

ولما كانت الإقامة بها قبل الفتح مؤدية إلى الفتنة ، وكان المفتون ربما طاوع بلسانه ، وكان ذلك وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان في صورة الشرك قال : { فإياي } أي خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها اعبدوا وتنبهوا { فاعبدون* } بسبب ما دبرت لكم من المصالح من توسيع الأرض وغيره ، عبادة لا شرك فيها ، لا باللسان ولا بغيره ولا استخفافاً بها ولا مراعاة لمخلوق في معصيته ، ولا شيء يجر إليها بالهرب ممن يمنعكم من ذلك إلى من يعينكم عليه .