في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

28

( يا أيها النبي ، قل لأزواجك : إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة ، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) . .

لقد اختار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف ، لا عجزا عن حياة المتاع ، فقد عاش حتى فتحت له الأرض ، وكثرت غنائمها ، وعم فيؤها ، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد ! ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته نار . مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا . ولكن ذلك كان اختيارا للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا ورغبة خالصة فيما عند الله . رغبة الذي يملك ولكنه يعف ويستعلي ويختار . . ولم يكن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته ، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته ؛ ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف ، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا ، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها ، ولا انغماسا فيها ولا انشغالا بها . . ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه ، إلا أن يختارها من يريد ، استعلاء على اللذائذ والمتاع ، وانطلاقا من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها .

ولكن نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كن نساء ، من البشر ، لهن مشاعر البشر . وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة ، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن . فلما أن رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في أمر النفقة . فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب ، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضى ؛ إذ كانت نفسه [ صلى الله عليه وسلم ] ترغب في أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقة وارتفاع ورضى ؛ متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال ؛ وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرأ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها . لا بوصفه حلالا وحراما - فقد تبين الحلال والحرام - ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة !

ولقد بلغ الأسى برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه . وكان احتجابه عنهم أمرا صعبا عليهم يهون كل شيء دونه . وجاءوا فلم يؤذن لهم . روى الإمام أحمد - بإسناده - عن جابر - رضي الله عنه - قال : أقبل أبو بكر - رضي الله عنه - يستأذن على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والناس ببابه جلوس ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] جالس ، فلم يؤذن له . ثم أقبل عمر - رضي الله عنه - فاستأذن فلم يؤذن له . ثم أذن لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فدخلا ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] جالس وحوله نساؤه ، وهو [ صلى الله عليه وسلم ] ساكت . فقال عمر - رضي الله عنه - : لأكلمن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لعله يضحك . فقال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها ! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال : " هن حولي يسألنني النفقة " ! فقام أبو بكر - رضي الله عنه - إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر - رضي الله عنه - إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ما ليس عنده ? ! فنهاهما الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فقلن : والله لا نسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذا المجلس ما ليس عنده . . قال : وأنزل الله عز وجل الخيار ، فبدأ بعائشة - رضي الله عنها - فقال : " إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " قالت : وما هو ? قال : فتلا عليها ( يا أيها النبي قل لأزواجك ) . . الآية . قالت عائشة - رضي الله عنها - : أفيك أستأمر أبوي ? بل أختار الله تعالى ورسوله . وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا . لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " .

وفي رواية البخاري - بإسناده - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أخبرته أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جاءها حين أمره الله تعالى أن يخيرأزواجه . قالت : فبدأ بي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " - وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه - قالت : ثم قال : " إن الله تعالى قال : ( يا أيها النبي قل لأزواجك )إلى تمام الآيتين " . فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ? فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة .

لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة . هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وحياته الخاصة ؛ وأن تتحقق في أدق صورة وأوضحها في هذا البيت الذي كان - وسيبقى - منارة للمسلمين وللإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها .

ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق . فإما الحياة الدنيا وزينتها ، وإما الله ورسوله والدار الآخرة . فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة . وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .

وقد كانت نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد قلن : والله لا نسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذا المجلس ما ليس عنده . فنزل القرآن ليقرر أصل القضية . فليست المسألة أن يكون عنده أو لا يكون . إنما المسألة هي اختيار الله ورسوله والدار الآخرة كلية ، أو اختيار الزينة والمتاع . سواء كانت خزائن الأرض كلها تحت أيديهن أم كانت بيوتهن خاوية من الزاد . وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة اختيارا مطلقا بعد هذا التخيير الحاسم . وكن حيث تؤهلن مكانتهن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي ذلك الأفق العالي الكريم اللائق ببيت الرسول العظيم . وفي بعض الروايات أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فرح بهذا الاختيار .

ونحب أن نقف لحظات أمام هذا الحادث نتدبره من بعض زواياه .

إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم ؛ ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة . ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة وكل لجلجة بين قيم الدنيا وقيم الآخرة ؛ بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء . ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله والخلوص له وحده دون سواه .

هذا من جانب ومن الجانب الآخر يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والذين عاشوا معه واتصلوا به . وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان وحياة ناس من البشر ؛ لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم وسماتهم الإنسانية . مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها ؛ ومع كل هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه . فالمشاعر الإنسانية والعواطف البشرية لم تمت في تلك النفوس . ولكنها ارتفعت ، وصفت من الأوشاب . ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة ، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان .

وكثيرا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولصحابته - رضوان الله عليهم - صورة غير حقيقية ، أو غير كاملة ، نجردهم فيها من كل المشاعر والعواطف البشرية ، حاسبين أننا نرفعهم بهذا وننزههم عما نعده نحن نقصا وضعفا !

وهذا الخطأ يرسم لهم صورة غير واقعية ، صورة ملفعة بهالات غامضة لا نتبين من خلالها ملامحهم الإنسانية الأصيلة . ومن ثم تنقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم . وتبقى شخوصهم في حسنا بين تلك الهالات أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس ولا تتماسك في الأيدي ! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقا آخر غيرنا . . ملائكة أو خلقا مثلهم مجردا من مشاعر البشر وعواطفهم على كل حال ! ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنهاتبعدهم عن محيطنا ، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر . يأسا من إمكان التشبه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعية . وتفقد السيرة بذلك أهم عنصر محرك ، وهو استجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد . وتحل محلها الروعة والانبهار ، اللذان لا ينتجان إلا شعورا مبهما غامضا سحريا ليس له أثر عملي في حياتنا الواقعية . . ثم نفقد كذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة . لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون ، عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن . ولكنهم هم ارتقوا بها وصفوها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا .

وحكمة الله واضحة في أن يختار رسله من البشر ، لا من الملائكة ولا من أي خلق آخر غير البشر . كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة ؛ وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم ، وإن صفت ورفت وارتقت . فيحبوهم حب الإنسان للإنسان ؛ ويطمعوا في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير .

وفي حادث التخيير نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في المتاع ؛ كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ونسائه رضي الله عنهن - وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة ! فيؤذيه هذا ، ولكنه لا يقبل من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة . فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية ، تصفى وترفع ، ولكنها لا تخمد ولا تكبت ! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه . فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، اختيارا لا إكراه فيه ولا كبت ولا ضغط ؛ فيفرح قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء .

ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يحب عائشة حبا ظاهرا ؛ ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له ولأهل بيته فيبدأ بها في التخيير ؛ ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد ؛ فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها - وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت - وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لا تخطئ عائشة - رضي الله عنها - من جانبها في إدراكها ؛ فتسرها وتحفل بتسجيلها في حديثها . ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي صلى الله عليه وسلم إنسانا يحب زوجه الصغيرة ، فيحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه ؛ وتبقى معه على هذا الأفق ، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه ، والتي يريدها له ربه ولأهل بيته . كذلك تبدو عائشة - رضي الله عنها - إنسانة يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها ؛ فتسجل بفرح حرصه عليها ، وحبه لها ، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء . ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك ، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن ! وما في هذا الطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار ، وميزتها على بقية نسائه ، أو على بعضهن في هذا المقام ! . . وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يقول لها : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا . لا تسألني واحدة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " . . فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير ؛ ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير ؛ بل يقدم العون لكل من تريد العون . كي ترتفع على نفسها ، وتتخلص من جواذب الأرض ومغريات المتاع !

هذه الملامح البشرية العزيزة ينبغي لنا - ونحن نعرض السيرة - ألا نطمسها ، وألا نهملها ، وألا نقلل منقيمتها . فإدراكها على حقيقتها هو الذي يربط بيننا وبين شخصية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وشخصيات أصحابه - رضي الله عنهم - برباط حي ، فيه من التعاطف والتجاوب ما يستجيش القلب إلى التأسي العملي والاقتداء الواقعي .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : هذه الأشياء مرادكن ، وغاية مقصودكن ، وإذا حصل لَكُنَّ اللّه ورسوله والجنة ، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها ، ويسرها وعسرها ، وقنعتن من رسول اللّه بما تيسر ، ولم تطلبن منه ما يشق عليه ، { فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } رتب الأجر على وصفهن بالإحسان ، لأنه السبب الموجب لذلك ، لا لكونهن زوجات للرسول فإن مجرد ذلك ، لا يكفي ، بل لا يفيد شيئًا ، مع عدم الإحسان ، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك ، فاخترن اللّه ورسوله ، والدار الآخرة ، كلهن ، ولم يتخلف منهن واحدة ، رضي اللّه عنهن .

وفي هذا التخيير فوائد عديدة :

منها : الاعتناء برسوله ، وغيرته عليه ، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية .

ومنها : سلامته صلى اللّه عليه وسلم ، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات ، وأنه يبقى في حرية نفسه ، إن شاء أعطى ، وإن شاء منع { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ }

ومنها : تنزيهه عما لو كان فيهن ، من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله ، والدار الآخرة ، وعن مقارنتها .

ومنها : سلامة زوجاته ، رضي اللّه عنهن ، عن الإثم ، والتعرض لسخط اللّه ورسوله .

فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن ، التسخط على الرسول ، الموجب لسخطه ، المسخط لربه ، الموجب لعقابه .

ومنها : إظهار رفعتهن ، وعلو درجتهن ، وبيان علو هممهن ، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة ، مرادهن ومقصودهن ، دون الدنيا وحطامها .

ومنها : استعدادهن بهذا الاختيار ، للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة ، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة .

ومنها : ظهور المناسبة بينه وبينهن ، فإنه أكمل الخلق ، وأراد اللّه أن تكون نساؤه{[703]}  كاملات مكملات ، طيبات مطيبات { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }

ومنها : أن هذا التخيير داع ، وموجب للقناعة ، التي يطمئن لها القلب ، وينشرح لها الصدر ، ويزول عنهن جشع الحرص ، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه ، وهمه وغمه .

ومنها : أن يكون اختيارهن هذا ، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته ، وأن يَكُنَّ بمرتبة ، ليس فيها أحد من النساء ، ولهذا قال :


[703]:- في أ: نساء.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

فيه ثماني مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي " قال علماؤنا : هذه الآية متصلة : بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وكان قد تأذى ببعض الزوجات . قيل : سألنه شيئا من عرض الدنيا . وقيل : زيادة في النفقة . وقيل : أذينه بغيرة بعضهن على بعض . وقيل : أمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها . أمر صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه فاخترنه . وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا ، وبين أن يكون نبيا مسكينا ، فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها ، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين ، أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته ، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له . وقيل : إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله ، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب ، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب - وقيل بالزعفران - فأبت إلا أن تكون من ذهب ، فنزلت آية التخيير فخيرهن ، فقلن اخترنا الله ورسوله . وقيل : إن واحدة منهن اختارت الفراق . فالله أعلم .

روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم - عن جابر ابن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا . قال : - فقال والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! ! فقلن : والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده . ثم اعتزلن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية : " يا أيها النبي قل لأزواجك - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما " . قال : فبدأ بعائشة فقال : ( يا عائشة ، إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ) قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية . قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسول والدار الآخرة ، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت . قال : ( لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) . وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : ( يا عائشة ، إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) قالت : وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه ، قال ثم قال : ( إن الله يقول : " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما " فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت . قال : هذا حديث حسن صحيح قال العلماء : وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها ، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه ، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه .

الثانية- قوله تعالى : " قل لأزواجك " كان للنبي صلى الله عليه وسلم أزواج ، منهن من دخل بها ، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها ، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها . فأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب . وكانت قبله عند أبي هالة{[12787]} واسمه زرارة بن النباش الأسدي ، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ ، ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف . وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة ، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه . ويقال : إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند ، وسمعت نادبته تقول حين مات : واهند بن هنداه ، واربيب رسول الله . ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت . وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة ، وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين ، وقيل : عشر . أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة . وهي أول امرأة آمنت به . وجميع أولاده منها غير إبراهيم . قال حكيم بن حزام : توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها ، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها .

ومنهن : سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية ، أسلمت قديما وبايعت ، وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو ، وأسلم أيضا ، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ، فلما قدما مكة مات زوجها . وقيل : مات بالحبشة ، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، فتزوجها ودخل بها بمكة ، وهاجر بها إلى المدينة ، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها في نسائه ، وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها ، وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين .

ومنهن : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وكانت مسماة لجبير بن مطعم ، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، دعني أسلها من جبير سلا رفيقا ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين ، وقيل بثلاث سنين ، وبنى بها بالدينة وهي بنت تسع ، وبقيت عنده تسع سنين ، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة ، ولم يتزوج بكرا غيرها . وماتت سنة تسع وخمسين ، وقيل ثمان وخمسين .

ومنهن : حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها ، فأتاه جبريل فقال : ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة ) فراجعها . قال الواقدي : وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية ، وهي ابنة ستين سنة . . وقيل : ماتت في خلافة عثمان بالمدينة .

ومنهن : أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية واسم أبي أمية سهيل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال سنة أربع ، زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح ، وكان عمر ابنها صغيرا ، وتوفيت في سنة تسع وخمسين . وقيل : سنة ثنتين وستين ، والأول أصح . وصلى ، عليها سعيد ابن زيد . وقيل أبو هريرة . وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة .

ومنهن ، أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي ، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها ، وذلك سنة سبع من الهجرة ، وأصدق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار ، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة ، وتوفيت سنة أربع وأربعين . وقال الدارقطني : كانت أم حبيبة تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض ، الحبشة على النصرانية ، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وأمهرها عنه أربعة آلاف ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .

ومنهن : زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية ، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، وكان اسم أبيها برة ، فقالت : يا رسول الله ، بدل اسم أبي فإن البرة حقيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشا والجحش من البرة ) ذكر هذا الحديث الدارقطني . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة ، وتوفيت سنة عشرين ، وهي بنت ثلاث وخمسين .

ومنهن : زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية ، كانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ، لإطعامها إياهم . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة ، فمكثت عنده ثمانية أشهر ، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا ، ودفنت بالبقيع .

ومنهن : جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية ، أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، وذلك في شعبان سنة ست ، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية ، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين . وقيل : سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين .

ومنهن : صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية ، سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر واصطفاها لنفسه ، وأسلمت وأعتقها ، وجعل عتقها صداقها . . وفي الصحيح : أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس ، وماتت في سنة اثنتين وخمسين . وقيل : سنة اثنتين وخمسين ، ودفنت بالبقيع .

ومنهن : ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة من بني النضير ، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها ، وتزوجها في سنة ست ، وماتت مرجعه من حجة الوداع ، فدفنها بالبقيع . وقال الواقدي : ماتت سنة ست عشرة وصلى عليها عمر . قال أبو الفرج الجوزي : وقد سمعت من يقول : إنه كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها .

قلت : ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي في عداد أزواج النبي صلى .

ومنهن : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة ، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية ، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، ودفنت هنالك ، وذلك في سنة إحدى وستين . وقيل : ثلاث وستين . وقيل ثمان وستين .

فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وهن اللاتي دخل بهن ، رضي الله عنهن . فأما من تزوجهن ولم يدخل بهن فمنهن : الكلابية . واختلفوا في اسمها ، فقيل فاطمة . وقيل عمرة . وقيل العالية . قال الزهري : تزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها ، وكانت تقول : أنا الشقية . تزوجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة ، وتوفيت سنة ستين .

ومنهن : أسماء بنت النعمان بن الجون بن الحارث الكندية ، وهي الجونية . قال قتادة : لما دخل عليها دعاها فقالت : تعال أنت ، فطلقها . وقال غيره : هي التي استعاذت منه . وفي البخاري قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين . وفي لفظ آخر قال أبو أسيد : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية ، فلما دخل عليها قال : ( هبي لي نفسك ) فقالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ، فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن ، فقالت : أعوذ بالله منك فقال : ( قد عذت بمعاذ ) ثم خرج علينا فقال : ( يا أبا أسيد ، اكسها رازقيين{[12788]} وألحقها بأهلها ) .

ومنهن : قتيلة بنت قيس ، أخت الأشعث بن قيس ، زوجها إياه الأشعث ، ثم انصرف إلى حضرموت ، فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فردها إلى بلاده ، فارتد وارتدت معه . ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل ، فوجد من ذلك أبو بكر وجدا شديدا . فقال له عمر : إنها والله ما هي من أزواجه ، ما خيرها ولا حجبها . ولقد برأها{[12789]} الله منه بالارتداد . وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها .

ومنهن : أم شريك الأزدية ، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم{[12790]} ، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى ، فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها . وهي التي وهبت نفسها . وقيل : إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم .

ومنهن : خولة بنت الهزيل بن هبيرة ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلكت قبل أن تصل إليه .

ومنهن : شراف بنت خليفه ، أخت دحية ، تزوجها ولم يدخل بها .

ومنهن ليلى بنت الخطيم ، أخت قيس ، تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها .

ومنهن : عمرة بنت معاوية الكندية ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعبي : تزوج امرأة من كندة فجيء بها بعد ما مات .

ومنهن : ابنة جندب بن ضمرة الجندعية . قال بعضهم : تزوجها رسول الله صلى الله عليه وأنكر بعضهم وجود ذلك .

ومنهن : الغفارية . قال بعضهم : تزوج امرأة من غفار ، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال : ( الحقي بأهلك ) . ويقال : إنما رأى البياض بالكلابية . فهؤلاء اللاتي ، عقد عليهن ولم يدخل بهن ، صلى الله عليه وسلم

فأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن ، ومن وهبت له نفسها :

فمنهن : أم هانئ بنت أبي طالب ، واسمها فاختة . خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة مصبية{[12791]} واعتذرت إليه فعذرها .

ومنهن : ضباعة بنت عامر .

ومنهن : صفية بنت بشامة بن نضلة ، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سباء ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إن شئت أنا وإن شئت زوجك ) ؟ قالت : زوجي . فأرسلها ، فلعنتها بنو تميم ، قاله ابن عباس .

ومنهن : أم شريك . وقد تقدم ذكرها .

ومنهن : ليلى بنت الخطيم ، وقد تقدم ذكرها .

ومنهن : خولة بنت حكم بن أمية ، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فأرجأها ، فتزوجها عثمان بن مظعون .

ومنهن : جمرة بنت الحارث بن عوف المري ، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوها : إن بها سوءا ولم يكن بها ، فرجع إليها أبوها وقد برصت ، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر .

ومنهن : سودة القرشية ، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية . فقالت : أخاف أن يضغو{[12792]} صبيتي عند رأسك . فحمدها ودعا لها .

ومنهن : امرأة لم يذكر اسمها . قال مجاهد : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : أستأمر أبي . فلقيت أباها فأذن لها ، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( قد التحفنا لحافا غيرك ) . فهؤلاء جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان له من السراري سريتان : مارية القبطية ، وريحانة ، في قول قتادة . وقال غيره : كان له أربع : مارية ، وريحانة ، وأخرى جميلة أصابها في السبي ، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش .

الثالثة- قوله تعالى : " إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها " " إن " شرط ، وجوابه " فتعالين " ، فعلق التخيير على شرط . وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان ، فينفذان ويمضيان ، خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار ، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار ، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير .

الرابعة- قوله تعالى : " فتعالين " هو جواب الشرط ، وهو فعل جماعة النساء ، من قولك تعالى ، وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال : تعال بمعنى أقبل ، وضع لمن له جلالة ورفعة ، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال ، وأما في هذا الموضع فهو على أصله ، فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمتعكن " قد تقدّم الكلام في المتعة في " البقرة " {[12793]} . وقرئ " أمتعُكن " بضم العين . وكذا " أسرحكن " بضم الحاء على الاستئناف . والسراح الجميل : هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها .

الخامسة- اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، فاخترن البقاء ، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة . ومنهن من قال : إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة . ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة .

قلت : القول الأول أصح ، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت : قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية : فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق ، لذلك قال : ( يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ) الحديث . ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة . فثبت أن الإستئمار إنما وقع في الفرقة ، أو النكاح . والله أعلم .

السادسة- واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها ، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : إنه لا يلزمه طلاق ، لا واحدة ولا أكثر ، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة . ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب . وروي عن علي وزيد أيضا : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وهو قول الحسن البصري والليث ، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك . وتعلقوا بأن قوله : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق ، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة ، كقوله : أنت بائن . والصحيح الأول ؛ لقول عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ، فلم يعده علينا طلاقا . أخرجه الصحيحان . قال ابن المنذر : وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا ، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق ، ويدل على معنى ثالث ، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها ، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله . وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي . وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . ورواه ابن خويز منداد عن مالك . وروي عن زيد : بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث . وهو قول الحسن البصري ، وبه قال مالك والليث ، لأن الملك إنما يكون بذلك . وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء . وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .

السابعة- ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء ، والقضاء ما قضت فيهما جميعا ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة . قال ابن شعبان : وقد اختاره كثير من أصحابنا ، وهو قول جماعة من أهل المدينة . قال أبو عمر : وعلى هذا القول أكثر الفقهاء . والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما ، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته : قد ملكتك ، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك ، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها . وقالت طائفة من أهل المدينة : له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها . والأول قول مالك في المشهور . وروى ابن خويز منداد . عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث ، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة . وبه قال أبو الجهم . قال سحنون : وعليه أكثر أصحابنا . وتحصيل مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله ، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له . وإن اختارت واحدة فليس بشيء ، وإنما الخيار البتات ، إما أخذته وإما تركته ؛ لأن معنى التخيير التسريح ، قال الله تعالى في آية التخيير : " فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " {[12794]} فمعنى التسريح البتات ، قال الله تعالى : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " [ البقرة : 229 ] . والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم . ومن جهة المعنى أن قوله : اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها ، ولا يملك منها شيئا ، إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته ، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ ، وكانت به بمنزل من خير بين شيئين فاختار غيرهما . وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة ؛ لأنها تبين في الحال .

الثامنة- واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار ، فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض . فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها ، وعلى هذا أكثر الفقهاء . وقال مرة : لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت ، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة ، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع ، أو فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها . وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها . واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى : " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " {[12795]} [ النساء : 140 ] . وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها ، فصار كالعقد بينهما ، فإن قبلته وإلا سقط ، كالذي يقول : قد وهبت لك أو بايعتك ، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا محال . هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبى ثور ، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها .

قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : ( إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) رواه الصحيح ، وخرجه البخاري ، وصححه الترمذي . وقد تقدم في أول الباب . وهو حجة لمن قال : إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما ، روي هذا عن الحسن والزهري ، وقال مالك في إحدى روايتيه . قال أبو عبيد : والذي عندنا في هذا الباب ، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر . قال المروزي : هذا أصح الأقاويل عندي . وقاله ابن المنذر والطحاوي .


[12787]:في كتب الصحابة أقوال فيمن كان قبل.
[12788]:قوله "رازقيين" بالتثنية، صفة موصوف محذوف للعلم. في رواية "رازقينين" والرازقية: ثياب من كتان بيض طوال.
[12789]:كذا في الأصول وأسد الغابة، وعبارته:" وقد برأها الله بالردّة" والذي في شرح المواهب:"...وارتدّت مع أخيها فبرئت من الله ورسوله...الخ".
[12790]:في المواهب:" جابر بن عوف".
[12791]:أي ذات صبيان.
[12792]:أي يصيحوا ويضجوا.
[12793]:راجع ج 3 ص 200 فما بعد.
[12794]:راجع ج 3 ص 125.
[12795]:راجع ج 5 ص 418.

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (29)

{ وإن كنتن } بما لكن من الجبلة { تردن الله } أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال { ورسوله } المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئاً ، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله { والدار الآخرة } التي هي الحيوان بما{[55464]} لها من البقاء ، والعلو والارتقاء .

ولما كان ما كل من أظهر شيئاً كان عالي الرتبة فيه ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعاً لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم ، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو{[55465]} يستبعد وقوعه في الدنيا أو{[55466]} الآخرة : { فإن الله } أي{[55467]} بما له من جميع صفات الكمال{[55468]} { أعد } في الدنيا والآخرة { للمحسنات منكن } أي اللاتي يفعلن ذلك وهن{[55469]} في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره { أجراً عظيماً * } أي تحتقر{[55470]} له الدنيا وكل{[55471]} ما فيها من زينة ونعمة .


[55464]:في م ومد: لما.
[55465]:في ظ "و".
[55466]:في ظ "و".
[55467]:سقط من ظ.
[55468]:من ظ ومد، وفي الأصل: الإحسان، والكلمة ساقطة من ظ.
[55469]:من م ومد، وفي الأصل وظ: هي.
[55470]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يحقر.
[55471]:زيد من ظ وم ومد.