ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النص القرآني . فنجده - بعد تحديد القيم في أمر الدنيا والآخرة ؛ وتحقيق قوله تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )في صورة عملية في حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . . نجده بعد هذا البيان يأخذ في بيان الجزاء المدخر لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفيه خصوصية لهن وعليهن ، تناسب مقامهن الكريم ، ومكانهن من رسول الله المختار :
( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا . ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ، وأعتدنا لها رزقا كريما ) . .
إنها تبعة المكان الكريم الذي هن فيه . وهن أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهن أمهات المؤمنين . وهذه الصفة وتلك كلتاهما ترتبان عليهن واجبات ثقيلة ، وتعصمانهن كذلك من مقارفة الفاحشة . فإذا فرض وقارفت واحدة منهن فاحشة مبينة واضحة لا خفاء فيها ، كانت مستحقة لضعفين من العذاب . وذلك فرض يبين تبعة المكان الكريم الذي هن فيه . . ( وكان ذلك على الله يسيرا ) . . لا تمنعه ولا تصعبه مكانتهن من رسول الله المختار . كما قد يتبادر إلى الأذهان !
{ 30 - 31 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }
لما اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة ، ذكر مضاعفة أجرهن ، ومضاعفة وزرهن وإثمهن ، لو جرى منهن ، ليزداد حذرهن ، وشكرهن اللّه تعالى ، فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة ، لها العذاب ضعفين .
الأولى- قال العلماء : لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم شكرهن الله على ذلك فقال تكرمة لهن : " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج " [ الأحزاب : 52 ] الآية . وبين حكمهن عن غيرهن فقال : " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " {[12796]} [ الأحزاب : 53 ] وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن فقال : " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة - والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الإفك{[12797]} - يضاعف لها العذاب ضعفين ، لشرف منزلتهن وفضل درجتهن ، وتقدمهن على سائر النساء أجمع . وكذلك بينت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدم بيانه غير مرة - أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات ، ؛ ولذلك ضوعف حد الحر على العبد والثيب على البكر . وقيل : لما كان أزوج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه ، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب . وقيل ، إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى : " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة " {[12798]} [ الأحزاب : 57 ] . واختار هذا القول الكيا الطبري .
الثانية- قال قوم : لو قدر الزنى من واحدة منهن - وقد أعاذهن الله من ذلك - لكانت تحد حدين لعظم قدرها ، كما يزاد حد الحرة على الأمة . والعذاب بمعنى الحد ، قال الله تعالى : " وليشهد عذابهما طائفة{[12799]} من{[12800]} المؤمنين " [ النور : 2 ] . وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرتين ، وقال أبو عبيدة : ضعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة . وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبري عنه ، فيضاف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبة . وضعفه الطبري . وكذلك هو غير صحيح ، وإن كان له باللفظ تعلق الاحتمال . وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول ؛ لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة ، قاله ابن عطية . وقال النحاس : فرق أبو عمرو بين " يضاعف ويضعف " قال : " يضاعف " للمرار الكثيرة . و " يضعف " مرتين . وقرأ " يضعف " لهذا . وقال أبو عبيدة : " يضاعف لها العذاب " يجعل ثلاثة أعذبة . قال النحاس : التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من أهل اللغة علمته ، والمعنى في " يضاعف ويضعف " واحد ، أي يجعل ضعفين ، كما تقول : إن دفعت إلي درهما دفعت إليك ضعفيه ، أي مثليه ، يعني درهمين . ويدل على هذا " نؤتها أجرها مرتين " ولا يكون العذاب أكثر من الأجر . وقال في موضع آخر " آتهم ضعفين من العذاب " {[12801]} [ الأحزاب : 68 ] أي مثلين . وروى معمر عن قتادة " يضاعف لها العذاب ضعفين " قال : عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . قال القشيري أبو نصر : الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين ، لأنه قال : " نؤتها أجرها مرتين " . فأما في الوصايا ، لو أوصي لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطي مثل نصيبه ثلاث مرات ، فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس ، وكلام الله يرد تفسيره إلى كلام العرب ، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد ، وليس بمقصور على مثلين . يقال : هذا ضعف هذا ، أي مثله . وهذا ضعفاه ، أي مثلاه ، فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة ، قال الله تعالى : " فأولئك لهم جزاء الضعف " {[12802]} [ سبأ : 37 ] ولم يرد مثلا ولا مثلين . كل هذا قول الأزهري . وقد تقدم في " النور " الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن{[12803]} ، والحمد لله .
الثالثة- قال أبو رافع : كان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح ، وكان إذا بلغ " يا نساء النبي " رفع بها صوته ، فقيل له في ذلك ، فقال : ( أذكرهن العهد ) . قرأ الجمهور : " من يأت " بالياء . وكذلك " من يقنت " حملا على لفظ " من " . والقنوت الطاعة ، وقد تقدم{[12804]} . وقرأ يعقوب : " من تأت " و " تقنت " بالتاء من فوق ، حملا على المعنى . وقال قوم : الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط . وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي . وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته . وقالت فرقة : بل قوله " فاحشة مبينة " تعم جميع المعاصي . وكذلك الفاحشة كيف وودت . وقرأ ابن كثير " مبينة " بفتح الياء . وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها . وقرأت فرقة : " يضاعف " بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة " يضاعف " بالنون المضمومة ونصب " العذاب " وهذه قراءة ابن محيصن . وهذه مفاعلة من واحد ، كطارقت النعل وعاقبت اللص . وقرأ نافع وحمزة والكسائي " يضاعف " بالياء وفتح العين ، " العذاب " رفعا . وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى . وقرأ ابن كثير وابن عامر " نضعف " بالنون وكسر العين المشددة ، " العذاب " نصبا . قال مقاتل هذا التضعيف في عذاب إنما هو في الآخرة ؛ لأن إيتاء الأجر مرتين أيضا في الآخرة . وهذا حسن ؛ لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدا . وقد قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنما خانت في الإيمان والطاعة . وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعدن به " ضعفين " هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فكذلك الأجر . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة ، على ما هي حال الناس عليه ، بحكم حديث عبادة بن الصامت{[12805]} . وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره . وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة . ذكره النحاس .
ولما أتى سبحانه بهذه العبارة{[55472]} الحكيمة الصالحة مع البيان للتبعيض ترهيباً في ترغيب ، أحسن كلهن وحققن بما تخلقن به أن من للبيان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليهن رضي الله عنهن ذلك ، وبدأ بعائشة رضي الله عنها رأس المحسنات إذ ذاك رضي الله عنها {[55473]}وعن أبيها{[55474]} وقال لها : " إني قائل لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أوبويك " ، فلما تلاها عليها قالت منكرة لتوقفها في الخبر{[55475]} : أفي هذا أستأمر أبوي ، فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم عرض ذلك على جميع أزواجه فاقتدين كلهن{[55476]} بعائشة رضي الله عنهن فكانت لهن إماماً فنالت إلى أجرها مثل أجورهن{[55477]} - روى ذلك البخاري{[55478]} وغيره عن عائشة رضي الله عنها ، وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وجد على نسائه رضي الله عنهن فآلى منهن شهراً ، فلما انقضى الشهر نزل {[55479]}إليهن من{[55480]} غرفة كان اعتزل فيها وقد أنزل الله{[55481]} عليه الآيات . فخيرهن فاخترنه رضي الله عنهن ، وسبب ذلك أن منهن من سأل التوسع في النفقة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب التوسع في الدنيا ، روى الشيخان{[55482]} رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم ، من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى الحديث البيهقي ولفظه : قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا لشبعنا ، ولكنه كان يؤثر على نفسه ، وروى الطبراني في الأوسط عنها {[55483]}أيضاً رضي الله عنها{[55484]} قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل عني أو سره أن{[55485]} ينظر إلي فلينظر إليّ أشعث شاحب لم يضع{[55486]} لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ، رفع له علم فشمر إليه ، اليوم{[55487]} المضمار وغداً السباق ، والغاية الجنة أو النار " .
ولما كان الله سبحانه قد أمضى حكمته في هذه الدار في أنه{[55488]} لا يقبل قول{[55489]} إلا ببيان ، قال سبحانه متهدداً{[55490]} على ما قد أعاذهن الله منه ، فالمراد منه بيان أنه رفع مقاديرهن ، ولذلك ذكر الأفعال المسندة إليهن اعتباراً بلفظ " من " والتنبيه على غلط من جعل صحبه الأشراف دافعة للعقاب على الإسراف ، ومعلمة بأنها إنما تكون سبباً للإضعاف : { يا نساء النبي } أي{[55491]} المختارات له لما بينه وبين الله مما يظهر شرفه { من يأتِ } {[55492]}قراءة يعقوب على ما نقله البغوي{[55493]} بالمثناة الفوقانية{[55494]} على{[55495]} معنى من دون لفظها ، وهي قراءة شاذة نقلها الأهوازي في كتاب الشواذ عن ابن مسلم عنه : وقرأ{[55496]} الجماعة بالتحتانية على اللفظ وكذا " يقنت " { منكن بفاحشة } أي من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق باختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله أو غير ذلك { مبينة } أي واضحة ظاهرة في نفسها تكاد تنادي بذلك من سوء خلق ونشوز أو غير ذلك { يضاعف لها العذاب } أي بسبب ذلك ، ولما{[55497]} هول الأمر{[55498]} بالمفاعلة في قراءة نافع{[55499]} المفهمة{[55500]} لأكثر من اثنين كما مضى في البقرة ، سهله بقوله{[55501]} : { ضعفين } أي بالنسبة إلى ما لغيرها لأن مقدارها لا يعشره مقدار غيرها كما جعل حد الحر ضعفي{[55502]} ما للعبد ، وكما جعل أجرهن مرتين .
واشتد العتاب فيما بين الأحباب ، وعلى قدر علو المقام يكون الملام ، و{[55503]} بقدر النعمة تكون النقمة ، وكل من بناء يضاعف للمجهول من باب المفاعلة أو{[55504]} التفعيل {[55505]}لأبي جعفر والبصريين أو للفاعل بالنون عند ابن كثير وابن عامر{[55506]} يدل على عظمته سبحانه ، والبناء للمجهول يدل على العناية بالتهويل بالعذاب بجعله{[55507]} عمدة الكلام وصاحب{[55508]} الجملة بإسناد الفعل إليه ، وذلك كله إشارة إلى أن الأمور الكبار صغيرة عنده سبحانه لأنه لا يضره شيء ولا ينفعه شيء ، ولا يوجب شيء من الأشياء له حدوث شيء{[55509]} لم يكن ، ولذلك قال : { وكان ذلك } أي مع كونه عظيماً عندكم { على الله يسيراً * } فهذا ناظر إلى مقام الجلال والكبرياء والعظمة .