ثم ينتقل بهم من ذوات أنفسهم وحركة الأحياء حولهم ، إلى الظواهر الكونية ، وما ينشأ عنها من أسباب الحياة لهم وللأحياء جميعاً :
( واختلاف الليل والنهار ، وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح ، آيات لقوم يعقلون ) . .
واختلاف الليل والنهار ظاهرتان قد يُخلق جدتهما في نفوس البشر التكرار ! ولكن أية عجيبة تطالع الحس البشري وهو يواجه الليل أول مرة أو يواجه النهار ? إن القلب الشاعر المتفتح يرى هذه العجيبة دائماً ، وينتفض لها دائماً ؛ ويرى يد الله التي تدير الكون كله كلما رأى الليل والنهار .
وتنمو معارف البشر ، ويتسع علمهم عن بعض الظواهر الكونية ، ويعرفون أن الليل والنهار ظاهرتان تنشآن عن دورة الأرض حول محورها أمام الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة . ولكن العجيبة لا تنقص شيئاً بهذه المعرفة . فإن دورة الأرض هذه عجيبة أخرى . دورة هذا الجرم حول نفسه بهذه السرعة المنتظمة ، وهو عائم في الهواء ، سابح في الفضاء ، غير مستند إلى شيء إلا إلى القدرة التي تمسك به وتديره كما شاءت بهذا النظام الذي لا يتخلف ، وبهذا القدر الذي يسمح للأحياء والأشياء أن تظل على سطح هذا الكوكب السابح السارح الدائر في الفضاء !
ويتوسع البشر في علمهم فيدركون أهمية هاتين الظاهرتين على سطح الأرض بالقياس إلى الحياة والأحياء ؛ ويعرفون أن تقسيم الأوقات بين الليل والنهار بهذه النسبة على سطح هذا الكوكب عامل رئيسي لوجود الحياة وبقاء الأحياء ؛ وأنه لو لم توجد هاتان الظاهرتان بهذا القدر وعلى هذا النظام لتغير كل شيء على هذه الأرض ، وبخاصة تلك الحياة الإنسانية التي تخص المخاطبين . من الأحياء ! ومن ثم تزداد هاتان الظاهرتان أهمية في الحس البشري ولا تنقصان !
( وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ) . .
والرزق قد يكون المقصود به هو الماء النازل من السماء . كما فهم منه القدماء . ولكن رزق السماء أوسع . فهذه الأشعة التي تنزل من السماء ليست أقل أثراً في إحياء الأرض من الماء . بل إنها لهي التي ينشأ عنها الماء بإذن الله . فحرارة الشمس هي التي تبخر الماء من البحار فتتكاثف وتنزل أمطاراً ، وتجري عيوناً وأنهاراً ؛ وتحيا بها الأرض بعد موتها . تحيا بالماء وتحيا بالحرارة والضياء سواء !
وهي تمضي شمالاً وجنوباً ، وشرقاً وغرباً ، منحرفة ومستقيمة ، دافئة وباردة ، وفق النظام الدقيق المنسوق المقصود في تصميم هذا الكون العجيب ؛ وحساب كل شيء فيه حساباً دقيقاً لا يترك شيئاً للمصادفة العمياء . . ولتصريف الرياح علاقة معروفة بدورة الأرض ، وبظاهرتي الليل والنهار ، وبالرزق الذي ينزل من السماء . وكلها تتعاون في تحقيق مشيئة الله في خلق هذا الكون ، وتصريفه كما اراد . وفيها( آيات )معروضة في الكون . ولكن لمن ?
ولما ذكر الظرف وما خلق لأجله من الناس ، ضم إليهم بعض ما خلقه لأجلهم لشرفه-{[57882]} بالحياة ، أتبعه ما أودع الظرف من المرافق لأجل الحيوان فقال : { واختلاف الّليل والنهار } بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره ، وجر " اختلاف " بتقدير " في " فينوب حرف العطف مناب عامل واحد للابتداء عند من رفع " آيات " ، ومناب " إن " {[57883]} عند من نصب ، فلم يلزم نيابته مناب عاملين مختلفين في الابتداء في الرفع وفي " إن " في النصب .
ولما كان المطر أدل مما مضى على البعث والعزة ، لأن الشيء كلما قل الإلف له كان أمكن للتأمل فيه ، أولاه إياه فقال : { وما أنزل الله } أي الذي تمت عظمته فنفذت كلمته . ولما كان الإنزال قد يستعمل فيما اتى من علو معنوي وإن لم يكن حسياً ، بين أن المراد هنا الأمران فقال : { من السماء }{[57884]} .
ولما كانت منافع السماء غير منحصرة في الماء قال : { من رزق } أي مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق { فأحيا به } أي بسببه وتعقبه { الأرض } أي الصالحة للحياة ، ولذلك قال : { بعد موتها } أي يبسها{[57885]} و{[57886]}تهشم ما كان فيها من النبات وانقلابه بالاختلاط{[57887]} بترابها تراباً ، فإذا نزل عليها الماء جمعه{[57888]} منها فأخرجه على ما كان عليه كلما تجدد نزوله ، ولذلك لم يأت بالجار{[57889]} إشارة إلى دوام الحياة بالقوة إن لم يكن بالفعل .
ولما ذكر ما يشمل الماء ، ذكر-{[57890]} سبب السحاب الذي يحمله فقال : { وتصريف الرياح } في كل جهة {[57891]}من جهات الكون{[57892]} وفي كل معنى من رحمة وعذاب وغير ذلك من الأسباب ، ولم يذكر الفلك والسحاب كما في البقرة لاقتضاء اللبابية{[57893]} المسماة بها الحواميم ، ذلك لأنهما{[57894]} من جملة منافع التصريف ، وتوحيد حمزة والكسائي{[57895]} أبلغ ؛ لأن تصريف الشيء الواحد في الوجوه الكثيرة أعجب { آيات } قراءة الرفع أبلغ لإشارتها بعدم الحاجة إلى التأكيد إلى أن ما في الآية ظاهر الدلالة على القدرة والاختيار للصانع بما في التصريف من الاختلاف ، والماء بما يحدث عنه من الإنبات{[57896]} أوضح دلالة من بقيتها على البعث ، ولأجل شدة ظهورها ناط الأمر فيها بالعقل فقال : { لقوم يعقلون * } وقال القالي{[57897]} : والمعنى أن المنصفين{[57898]} لما نظروا في السماوات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم .
قوله : { واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح } يعني في تعاقب الليل والنهار ، هذا بظلامه ، والآخر بضيائه ، وما أنزل الله من السماء من غيث مغيث يجعل الله منه رزقا للعباد وقوتا وشرابا ، ويحيي به الله الأرض فيثير فيها الخصب والنماء والخضرة والبركة ، بعد أن كانت قفرا يبسا لا ماء فيها ولا نبات ولا حياة . وكذلك تصريف الله للرياح فتهب من الشمال تارة ، ومن الشرق ثانية ، ومن الغرب ثالثة وغير ذلك من أنواع الرياح على اختلاف هبوبها وجهاتها ومنافعها فمنها المبشرات التي تحمل الأمطار فتبشر بالخير والسعة والرزق ، ومنها الساخنة التي تحمل للأرض الحرارة فينضج الزرع ويينع الثمر . ومنها الريح الطيبة التي تحمل النسائم المرغوبة المستطابة فتهيج في الحياة النشاط والبهجة والحركة ، وفي ذلك كله { آيات لقوم يعقلون } فيما تبين من الظواهر الكونية العجاب علامات وبراهين يستدل بها أولو العقول النيرة على قدرة الله الصانع الحكيم{[4182]} .