وأمَّا قولُه : { وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن " آيات " بالكسرِ ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً ، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين .
قلت : والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى . فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ " اختلافِ الليلِ " مجروراً ب " في " مضمرةً ، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه . وأنشَدَ سيبويه :
4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا *** فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ
تقديرُه : وبالأيام لتقدُّم الباءِ في " بك " ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف ؛ لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ : " وفي اختلافِ آيات " ف " آيات " على ما تقدَّم من الوجهين في " آيات " قبلَها : العطفِ أو التأكيدِ . قالوا : ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله " وفي اختلافِ " تصريحاً ب " في " . فهذان وجهان .
الثالث : أَنْ يُعْطَفَ " اختلافِ " على المجرورِ ب " في " وآياتٍ على المنصوبِ ب " إنَّ " . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين : وذلك أنَّك عَطَفْتَ " اختلاف " على خَلْق وهو مجرورٌ ب " في " فهو معمولُ عاملٍ ، وعَطَفْتَ " آياتٍ " على اسمِ " إنَّ " وهو معمولُ عاملٍ آخرَ ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما " اختلاف " و " آيات " على معمولَيْن قبلَهما وهما : خَلْق وآيات . وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ . وفي المسألة أربعةُ مذاهب : المَنْعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين . قالوا : لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ ، ولا قائل به ، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه ، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد ، وهو غيرُ جائزٍ .
قال ابن السراج : " العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ ، غيرُ مَسْموع من العرب " ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد . قال الرمَّاني : " هو كقولِك : " إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً " فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً ، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه . وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه ، فقد تناهى في العيب ، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه " .
قلت : وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها . وقال الزجاج : " ومثلُه في الشعر :
4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً *** ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه *** وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق
4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً *** بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا
قلت : أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و " نارٍ " على " امرئ " المخفوض ب " كل " و " ناراً " الثانية على " امرَأ " الثاني . والتقدير : وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً ، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن . والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه " جَنْبَيْه " على " بلبانه " وعَطَفَ " حَرَّ النارِ " على " الصلا " ، والتقدير : وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار ، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه " الحَماة " على " الكلب " و " شَرًّا " على " خيراً " ، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً . وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ ، لكنه عُورض بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً ، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ " مررتُ زيدٍ " بخفضِ " زيد " إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه :
4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ *** أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
يريد : إلى كليب ، وقولِ الآخر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ
أي إلى الأعلام ، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه . وأُجيب عن ذلك : بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه ، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر .
والمذهب الثاني : التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا . والثاني : أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا ، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها . ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ . ومثالُ الفَصْل ب لا قولك : " ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ " ، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو : إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً ، وواللَّهِ خالداً هنداً ، أو فُقِدَ أحدُهما نحو : إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً ، وخالداً بشراً . فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ . وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ .
الثالث : أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً ، وأَنْ يكونَ متقدماً ، نحوَ الآيةِ الكريمةِ ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ : " إنَّ زيداً في الدار ، وعمراً السوقِ " لم يَجُزْ ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه .
الرابع : الجوازُ ، ويُعْزَى للفَرَّاء .
الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة : أَنْ تنتصِبَ " آيات " على الاختصاصِ .
قاله الزمخشريُّ ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه .
وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . الثالث : أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها ، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ . الرابع : أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن ؛ وذلك أنَّ " اختلافِ " عطفٌ على " خَلْقِكم " وهو معمولٌ ل " في " و " آيات " معطوفةٌ على " آيات " قبلَها ، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً . قال الزمخشري : " قُرِئَ { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالرفع والنصبِ على قولِك : " إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ ، أو وعمروٌ في السوق " . وأمَّا قولُه : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما : " إنَّ " ، و " في " أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و { وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } والنصبَ في " آياتٍ " . وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ : الابتداءُ ، و " في " عملت الرفع في " آيات " والجرَّ في " اختلاف " " . ثم قال في توجيهِ النصبِ : " والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور " .
الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ " آياتٌ " على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي آياتٌ . وناقَشَه الشيخُ فقال : " ونسبةُ الجرِّ والرفعِ ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ " قلت : وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال : " فمنهم مَنْ يقولُ : هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ " في " ، والابتداءُ المقتضي للرفعِ . ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي " .
وقُرئ " واختلافُ " بالرفعِ " آيةٌ " بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر ، وكذلك قُرئ { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ } بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى " وتصريف الريح " كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.