وأما قوله : { واختلاف الليل والنهار } فقد تقدم أنَّ الأخوين يقرآن آياتٍ بالكسر وهي تحتاج إلى إيضاح ، فإن الناس تكلموا فيها كثيراً وخرّجوها على أوجه مختلفة ، وبها استدل على جواز العطف على عاملين{[50516]} قال شهاب الدين : والعطف على عاملين لا يختص بقراءة الأخوين ، بل يجوز أن يستدل عليه أيضاً بقراءة الباقين كما سنقف عليه إنْ شَاءَ الله تعالى . فأما قراءة الأخوين ففيها أَوْجهُ :
أحدها : أن يكون «اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ » مجروراً ب «في » مضمرةً ، وإنما حذفت لتقدم ذكرها مرتين{[50517]} وحرف الجر إذا دلّ عليه دليل ( جاز{[50518]} حذفه وأيضاً عمله وأنشد الإمام الأستاذ سيبويه : )
4433 ألآن قَربَّتْ تهْجُونَا وتَشْتُمُنَا *** فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ{[50519]}
تقديره : وبالأَيامِ ، لتقدم الباء في «بِكَ » . ولا يجوز عطفه على الكاف ؛ لأنه ليس من مذهبه العطف على الضمير المجرور ، دون إعادة الجارّ{[50520]} ، فالتقدير في هذه الآية : «وَفِي اخْتِلاَفِ آيَاتِ » ، فآيات على ما تقدم من الوجهين في آيات قبلها العطف أو التأكيد . قالوا : ويدلّ على ذلك قراءة عبد الله ( وَفِي اخْتِلافِ ) تصريحاً بفي{[50521]} . فهذان وجهان :
الثالث : أن يعطف «اخْتِلافِ » على المجرور بفي ، وآيات على المنصوب بإن وبهذا هو العطف على عاملين ، وتحقيقه على معمولي عاملين ، وذلك أنك عطفت «اخْتِلاَفِ » على «خَلْقِ » وهو مجرور بفي فهو معمول عامل ، وعطف «آياتِ » على اسم إنّ وهو معمول عامل آخر .
فقد عطفت بحرف واحد وهو الواو معمولين وهما «اخْتِلافِ » و«آياتٍ » على معمولين قبلهما وهما «خلق وآيات » .
وبظاهرها استدل على من جوّز ذلك كالأخفش{[50522]} . وفي المسألة أربعة مذاهب{[50523]} ، المنع مطلقاً ، وهو مذهب سيبويه ، وجمهور البصريين ، قالوا : لأنه يؤدي إلى إقامة حرف العطف مقام عامليْن وهو لا يجوز ؛ لأنه لو جاز في عاملين لجاز في ثلاثة ، ولا قائل به ، ولأن حرف العطف ضعيف ، فلا يَقْوَى أن ينوب عن عاملين ، ولأن القَائِلَ بجواز ذلك يستضعفه والأحسن عنده أن لا يجوز ، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله ، ولأنه بمنزلة التَّعْدِيَتَيْنِ بمُعَدِّ واحد ، وهو غير جائز{[50524]} .
قال ابن السراج{[50525]} : العطف على عاملين{[50526]} خطأ في القياس غير مسموع من العرب ، ثم حمل ما في هذه الآية على التكرار والتأكيد{[50527]} . قال الرماني{[50528]} : هو كقولك : إنَّ فِي الدَّارِ زَيْداً وَالبَيْتِ زَيْداً ، فهو جائز بالإجماع ، وهذا الوجه الذي ذكره ابن السراج حَسَنٌ{[50529]} جداً لا يجوز أن يحمل كتاب الله إلا عليه وقد ثبتت القراءة بالكسر ، ولا يعيب فيها في القرآن على وجه . والعطف على عاملين عيب عند من أجازه ومن لم يجزه فقد تَنَاهى في العيب فلا يجوز حمل هذه الآية على ما ذكره ابن السراج دون ما ذهب إليه غيره{[50530]} . قال شهاب الدين : وهذا الحَصْر منْهُ غير مُسَلَّم ، فإن في الآية تخريجاتٍ أُخَر على ما ذكره ابنُ السراج ، يجوز الحمل عليها{[50531]} . وقال الزجاج{[50532]} ومثله في الشعر :
4434 أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبينَ امْرَءاً *** وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارا{[50533]}
4435 وبَاشَرُوا رَعْيَها الصَّلا بِلَبَانِهِ *** وَجَنْبَيْهِ حَرَّ النَّارِ مَا يتَحَرَّفُ{[50534]}
4436 اَوْصَيْتَ مِنْ بَرَّةً قَلْباً حَرًّا *** بِالكَلْبِ خَيْراً وَالحَمَاةِ شَرًّا{[50535]}
فأما البيت الأول فظاهره أنه عطف «وَنَارٍ » على «امرئ » المخفوض «بكل » و«نَاراً » الثانية على «أمْرءاً » الثاني ، والتقدير : أتَحْسَبِينَ كُلَّ نار نَاراً ، فقد عطف على معمولي عاملين .
والبيت الثاني : عطف فيه «وجَنْبَيْهِ » على «بِلَبَانِهِ » عطف حرّ النار «على الصَّلا » والتقدير : وبَاشَرَ بجَنْبَيْه حَرَّ النَّارِ .
والبيت الثالث : عطف فيه «الحَمَاةِ » على «الكلبِ » و «شرًّا » على «خيراً » تقديره : وأوْصَيْتَ بالحَمَاةِ شَرًّا{[50536]} .
وسيبويه في جميع ذلك يرى الجر بخافض مقدر ، لكنه عورض بأن إعمال حرف الجر مضمراً ضعيفٌ جداً ، ألا ترى أنه لا يجوز : مَرَرْتُ زَيْدٍ بخفض «زَيْدٍ » إلاَّ في ضرورة كقوله :
4437 إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ *** أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ{[50537]}
يريد : إلى كليب ، وقول الآخر :
4438 . . . . . . . . . . . . . . *** تَبَذَّخَ فَارْتَقَى الأَعْلاَمِ{[50538]}
فقد فر من شيء فوقع في أضعف منه ، وأجِيب عن ذلك : بأنه لما تقدم ذكر الحرف في اللفظ قويتِ الدّلالة عليه فكأنه ملفوظ به بخلاف ما أردتموه في المِثَال والشِّعر .
والمذهب الثاني : التفضيل ، وهو مذهب الأخفش ، وذلك أنه يجوز بشرطين :
أحدهما : أن يكون أحد العاملين جاراً ، والثاني{[50539]} : أن يتصل المعطوف بالعاطف أو يفصل «بلا » مثال الأول : الآية الكريمة والأبيات المتقدمة ، ولذلك استصوب المبرد{[50540]} اشتهاده بالآية ومثال الفصل «بلا » قولك : مَا فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَلاَ الحُجْرَةِ عَمْرٌو . فلو فقد الشرطان ، نحو : إنَّ زَيْداً شَتَم بِشْراً ، وَوَاللهِ خَالِداً ( هِنْداً{[50541]} ) أو فقد أحدهما ، نحو : إنَّ زيداً ضَرَبَ بَكْراً ، وخالداً بِشْراً ، فقد نقل ابن مالك{[50542]} ، الامتناع عن الجميع . وفيه نظر ، لما سيأتي من الخِلاف .
الثالث : أنه يجوز بشرط أن يكون أحد العاملين جارًّا ، وأن يكون متقدماً نحو الآية الكريمة ، فلو لم يتقدم نحو : إنَّ زَيْداً في الدارِ وعمرو السوقِ ، لم يَجُز{[50543]} ، وكذا لو لم يكن حرف جر كما تقدم تمثيله{[50544]} .
الرابع : الجواز مطلقاً ، ويُعْزَى للفراء{[50545]} .
الوجه الرابع من أوجه تخريج القراءة المذكورة : أن ينتصب «آيات » على الاختصاص{[50546]} . قاله الزمخشري ، كما سيأتي . وأما قراءة الرفع{[50547]} ففيها أوجه :
أحدها : أن يكون الأول . والثاني : ما تقدم في { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
الثالث : أن تكون المسألة من باب العطف على عاملين ، وذلك أن «اخْتِلاَفِ » عطف على «خَلْقكم » وهو معمول «لفِي » و«آيات » قبلها ، وهي معمولة للابتداء فقد عطف على معمول عاملين في هذه القراءة أيضاً{[50548]} .
قال الزمخشري : وقرئ : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالرفع والنصب على قولك : إنَّ زَيْداً فِي الدَّارِ وعمرو في السوق أو عمراً في السُّوق{[50549]} . قال : وأما قوله : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فمن العطف على عاملين سواء نصبت أم رفعت ، فالعاملان في{[50550]} النصب ( إنَّ ) و( فِي ) ، أقيمت الواو مُقَامَهُما فعملت الجر في «اختلاف الليل والنهار » والنصب في «آيات » وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و ( في ) عملت الرفع في «آيات » والجر في «اختلاف »{[50551]} . ثُمَّ قال في توجيه النصب : والثاني : أن ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء المجرور{[50552]} .
والوجه الخامس : أن يرتفع «آياتٌ » على خبر ابتداء مضمر أي هِيَ آياتٌ{[50553]} . وناقشه أبو حيان فقال : ونسبة الجر{[50554]} والرفع والجر والنصب للواو ليس بصحيح ؛ لأنّ الصحيحَ من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل{[50555]} ، وأيضاً ناقش أبو شامة{[50556]} فقال : فمنهم من يقول هو على هذه القراءة أيضاً يعني قراءة الرفع عطف على عاملين . وهما حرف «في » والابتداء المقتضي للرفع . ومنهم من لا يطلق هذه العبارة في هذه القراءة ؛ لأن الابتداء ليس بعامل لفظي{[50557]} .
وقرئ : واخْتِلاَفُ بالرفع آيَةٌ بالرفع ، والتوحيد على الابتداء والخبر{[50558]} .
وكذلك قرئ : وما يَبُث مِنْ دَابَّةٌ آية بالتوحيد{[50559]} . وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وطلحة وعِيسَى : وتصْرِيف الرِّيح كذا قال أبو حيان{[50560]} . قال شهاب الدين : وقد قرأ بهذه القراءة حمزةُ والكسائيُّ أيضاً{[50561]} . وقد تقدم ذلك في سورة البقرة{[50562]} .
اختلاف الليل والنهار فيه وجوه :
الأول : تبديل النهار بالليل وبالعكس .
الثاني : زيادة طول النهار على طول الليل والعكس .
الثالث : اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة .
قوله : { وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ } يعني الرزق{[50563]} الذي هو سبب أرزاق العباد { فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وهذا يدل على وجوب القول بوجود الفاعل المختار من وجوه :
أحدها : إنشاء السحاب وإنزال المطر فيه .
وثانيها : تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض .
وثالثها : تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة ، وأغصانها ، وأوراقها ، وثمارها ، ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللّب ، كالجَوْز ، واللَّوز ، ومنها ما يكون اللّب محيطاً بالقشر كالمِشْمِش والخوخ ، ومنها ما يكون خالياً عن القشر كالتِّين . فتولد أقسام النبات على كثرة أقسامه وَتَبَايُنِها يدلّ على وجوب القول بوجود الفاعل المختار الحكيم الرحيم .
قوله : { وَتَصْرِيفِ الرياح } هي أقسام كثيرة منها الشرقية ، والغربية والشّمالية ، والجنوبية ، ومنها الحارّة ، والباردة ، أياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون . واعلم أنه تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] . فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل ، والتفاوت بين الوصفين من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال في سورة البقرة : { إنَّ في خلق السموات والأرض } وقال ههنا : { إن في السموات والأرض } والصحيح عند أهل السنة : إنَّ الخلق غير المخلوق ، فذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ، ولم يذكره هَهُنَا تنبيهاً على أن لا تفاوت بين أن يفصل السموات أو خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق غير المخلوق{[50564]} .
الثاني : أنه ذكر هناك ثمانيةَ أنواع من الدلائل ، وذكر ههنا سبعة أنواع من الدلائل ، وأهمل منها الفلك والسحاب ، والسَّبَبُ فيه أن مَدَار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة ، فذكر الرياح التي هي كالسبب يغني عن ذكرهما .
الثالث : أنه جمع الكل وذكر لها مقطَعاً واحداً ، وههنا رَتَّبَها على ثلاثة أنواع ، والغرض منه التنبيه على أنه لا بدّ من إفراد كل واحد منها بنظر تامٍّ سابقٍ .
الرابع : أنه تعالى ذكر في هذا الموضع ثلاثة مقاطع : أحدها : للمؤمنين ، وثانيها : «يوقنون » . وثالثها : «يعقلون » .
قال ابن الخطيب : وأظنُّ أن سبب هذا الترتيب أن قوله : إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ( بل أنتم{[50565]} من طلاب الجَزْم{[50566]} واليقين ، فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ) ولا من المُوقِنِينَ فلا أَقَلَّ أن تكونوا من زُمْرَةِ العقلاء فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل{[50567]} .