المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (5)

ثم ذكر تعالى اختلاف الليل والنهار والعبرة بالمطر والرياح ، فجعل ذلك { لقوم يعقلون } ، إذ كل عاقل يحصل هذه ويفهم قدرها ، وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولا بد فإن اللفظ يعطيه . و : { يبث } معناه : ينشر في الأرض . والدابة : كل حيوان يدب ، أو يمكن فيه أن يدب ، يدخل في ذلك الطير والحوت ، وشاهد الطير قول الشاعر : [ الطويل ]

صواعقها لطيرهن دبيب . . . {[10253]}

وقول الآخر : [ الطويل ]

دبيب قطا البطحاء في كل منهل . . . {[10254]}

وشاهد الحوت قول أبي موسى : " و قد ألقى البحر دابة مثل الظرب " {[10255]} ودواب البحر لفظ مشهور في اللغة .

وقرأ حمزة والكسائي : «آياتٍ » بالنصب في الموضعين الآخرين . وقرأ الباقون والجمهور : «آياتٌ » بالرفع فيهما ، فأما من قرأ بالنصب فحمل «آياتٍ » في الموضعين على نصب { إن } في قوله { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } ولا يعرض في ذلك العطف على عاملين الذي لا يجيزه سيبويه وكثير من النحويين ، لأنا نقدر { في } معادة في قوله : { واختلاف } وكذلك هي في مصحف ابن مسعود : «وفي اختلاف » ، فكأنه قال على قراءة الجمهور : «وفي اختلاف الليل » ، وذلك أن ذكرها قد تقدم في قوله : { وفي خلقكم } فلما تقدم ذكر الجار جاز حذفه من الثاني ، ويقدر مثبتاً كما قدر سيبويه في قول الشاعر [ أبو دؤاد الأيادي ] : [ المتقارب ]

أكل امرئ تحسبين امرأً . . . ونار توقد بالليل نارا ؟{[10256]}

أي وكل نار ، وكما قال الآخر : [ الرجز ]

أوصيت من برة قلباً حرّا . . . بالكلب خيراً والحماة شرّا{[10257]}

أي وبالحمأة ، وهذا الاعتراض كله إنما هو في { آيات }{[10258]} الثاني ، لأن الأول قبله حرف الجر ظاهر . وفي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود في الثلاثة المواضع : «لآيات » . قال أبو علي : وهذا يدل على أن الكلام محمول على أن في قراءة من أسقط اللامات في الاثنين الآخرين ، وأما من رفع «آياتٌ » في الموضعين فوجهه العطف على موضع { إن } وما عملت فيه ، لأن موضعها رفع بالابتداء ، ووجه آخر وهو أن يكون قوله : { وفي خلقكم وما يبث } مستأنفاً ، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة ، وقال بعض الناس : يجوز أن يكون جملة في موضع الحال فلا تكون غريبة على هذا .

{ واختلاف الليل والنهار } إما بالنور والظلام ، وإما بكونهما خلفة . والرزق المنزل من السماء : هو المطر ، سماه رزقاً بمآله ، لأن جميع ما يرتزق فعن المطر هو . { وتصريف الرياح } هو بكونها صباً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وأيضاً فبكونها مرة رحمة ومرة عذاباً ، قاله قتادة ، وأيضاً بلينها وشدتها وبردها وحرها .

وقرأ طلحة وعيسى : «وتصريف الريح » بالإفراد ، وكذلك في جميع القرآن إلا ما كان فيه مبشرات وخالف عيسى في الحجر فقرأ : { الرياح لواقح }{[10259]} [ الحجر : 22 ] .


[10253]:هذا عجز بيت قاله علقمة بن عبدة من قصيدته المعروفة التي بدأها بقوله:(طحا بك قلب في الحسان طروب)، والبيت بتمامه: كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب وصابت:أمطرت، والدبيب: المشي الضعيف الخفيف، والمعنى أن الممدوح إذا هجم على الأعداء كان كالسحابة التي تتفجر بالصواعق وتنزل كالطير عجزت عن التحليق فدبت على الأرض تطلب النجاة، وقد سبق الاستشهاد بالبيت في الجزء السابع من هذا التفسير، صفحة(243).
[10254]:وهذا أيضا عجز بيت قاله الأعشى من قصيدة له يقول في مطلعها: صحا القلب من ذكرى قتيلة بعدما يكون لها مثل الأسير المكبل والبيت بتمامه: نياف كغصن البان ترتج إن مشت دبيب قطا البطحاء في كل منهل وقد ورد الشاهد في الأصل هنا محرفا، والنياف: الطويلة التامة الحسن، والقطا: جمع قطاة، وهو نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، ويتخذ أفحوصه في الأرض، ويطير في جماعات، ويقطع مسافات شاسعة، وبيضه مرقط، ومشيته فيها بطء مع رشاقة، والمنهل: المورد، أي الموضع الذي فيه الشراب، وقد سبق الاستشهاد أيضا بهذا البيت في سورة هود، راجع الجزء السابع، (242).
[10255]:هذا جزء من حديث شريف أخرجه البخاري في الشركة والمغازي، والإمام أحمد في مسنده(3-306)، وأخرجه مالك في الموطأ في "صفة النبي"، ولفظه كما جاء في مسند أحمد عن جابر رضي الله عنه(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ثلاثمائة، وأّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فنفذ زادنا، فجمع أبو عبيدة زادهم فجعله في مزود، فكان يقيتنا حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الله، وما كانت تغني عنكم تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين ذهبت، حتى انتهينا إلى الساحل فإذا حوت مثل الظراب العظيم، قال: فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أخذ أبو عبيدة ضلعين من أضلاعه فنصبهما ثم أمر براحلته فمرت تحتهما فلم يصبها شيء).والظرب: الجبل المنبسط، أو الجبيل (بالتصغير) كما قال في أساس البلاغة واللسان.
[10256]:هذا البيت من شواهد سيبويه، وقد نسب لجارية بن الحجاج، وحارثة بن حمران، وعدي بن زيد العبادي، والصحيح أنه لأبي دؤاد الإيادي، وهو في أمالي ابن الشجري، وفي الكامل للمبرد، وفي مغني اللبيب لابن هشام، والشاهد في البيت أن"نار" مجرورة بكل أخرى مقدرة، كأنه قال:"وكل نار توقد بالليل تحسبينها نارا"، وقال بعض النحويين: إن هذا البيت كقولهم:"ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة"، وهو عطف على عاملين، وذلك أن"بيضاء" جر عطفا على "سوداء"، والعمال فيها"كل"، و"شحمة" نُصب عطفا على "تمرة" خبر "ما"، وسيبويه لا يجيز ذلك، وتأول المثال فقال:إن "بيضاء"مجرورة بـ"كل" أخرى مقدرة بعد"لا" وليست بمعطوفة على "سوداء". وقد ساعد على تقدير "كل" في البيت ذكرها في أوله، وقلة التباس الأمر على المخاطب.والزمخشري يرى أن الآية الكريمة من العطف على عاملين سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان-إذا نصبت- هما[إن] و[في] أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في {اختلاف الليل والنهار}، والنصب في [آيات]، وبالتالي فإنه يرى البيت كذلك، والذين يرفضون العطف على عاملين يقولون: إن حروف العطف تنوب مناب العامل، ولا يقوى أن تنوب مناب عاملين مختلفين؛ إذ لو ناب الحرف مناب عامل رافع وعامل ناصب لكان رافعا ناصبا في وقت واحد، وهذا قبيح مردود.
[10257]:هذا البيت أيضا شاهد على تقدير جار آخر هو الباء، أي: أوصيتها بالكلب خيرا وبالحماة شرا، ومعنى هذا أنه يرى أن الكلب خير من الحماة، ولم أقف على قائل هذا البيت فيما بين يدي من المراجع.
[10258]:هذا كله في قراءة النصب التي قرأ بها حمزة والكسائي، أما قراءة الرفع فستأتي بعد ذلك.
[10259]:من قوله تعالى في الآية(22) من سورة (الحجر):{وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه}.