مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (5)

ثم قال تعالى : { واختلاف الليل والنهار } وهذا الاختلاف يقع على وجوه : ( أحدها ) تبدل النهار بالليل وبالضد منه ( وثانيها ) أنه تارة يزداد طول النهار على طول الليل وتارة بالعكس وبمقدار ما يزداد في النهار الصيفي يزداد في الليل الشتوي ( وثالثها ) اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة .

ثم قال تعالى : { وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها } وهو يدل على القول بالفاعل المختار من وجوه ( أحدها ) إنشاء السحاب وإنزال المطر منه ( وثانيها ) تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض ( وثالثها ) تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة وأغصانها وأوراقها وثمارها ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطا باللب كالجوز واللوز ، ومنها ما يكون اللب محيطا بالقشر كالمشمش والخوخ ، ومنها ما يكون خاليا من القشر كالتين ، فتولد أقسام النبات على كثرة أصنافها وتباين أقسامها يدل على صحة القول بالفاعل المختار الحكيم الرحيم .

ثم قال : { وتصريف الرياح } وهي تنقسم إلى أقسام كثيرة بحسب تقسيمات مختلفة فمنها المشرقية والمغربية والشمالية والجنوبية ، ومنها الحارة والباردة ومنها الرياح النافعة والرياح الضارة ، ولما ذكر الله تعالى هذه الأنواع الكثيرة من الدلائل قال إنها آيات لقوم يعقلون .

واعلم أن الله تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل والتفاوت بين الموضعين من وجوه ( الأول ) أنه تعالى قال في سورة البقرة : { إن في خلق السموات والأرض } وقال هاهنا : { إن في السموات } والصحيح عند أصحابنا أن الخلق عين المخلوق ، وقد ذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ولم يذكره في هذه السورة تنبيها على أنه لا يتفاوت بين أن يقال السموات وبين أن يقال خلق السموات فيكون هذا دليلا على أن الخلق عين المخلوق ، ( الثاني ) أنه ذكر هناك ثمانية أنواع من الدلائل وذكر هاهنا ستة أنواع وأهمل منها الفلك والسحاب ، والسبب أن مدار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة فذكر الرياح الذي هو كالسبب يغني عن ذكرهما والتفاوت ( الثالث ) أنه جمع الكل وذكر لها مقطعا واحدا وهاهنا رتبها على ثلاثة مقاطع والغرض التنبيه على أنه لا بد من إفراد كل واحد منها بنظر تام شاف ، ( الرابع ) أنه تعالى ذكر في هذا الموضوع ثلاثة مقاطع ( أولها ) يؤمنون ( وثانيها ) يوقنون ( وثالثها ) يعقلون ، وأظن أن سبب هذا الترتيب أنه قيل إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ، واعلم أن كثيرا من الفقهاء يقولون إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون ، بل ليس فيه إلا ما يتعلق بالأحكام والفقه ، وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام وفيه سور كثيرة خصوصا المكيات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة وكل ذلك من علوم الأصوليين ، ومن تأمل علم أنه ليس في يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال .