سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون
هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها ؛ ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .
وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية . .
يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئا من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : ( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . .
وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه ؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أئنا لمردودون في الحافرة ? أئذا كنا عظاما نخرة ? قالوا : تلك إذا كرة خاسرة ! فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة . .
ومن هنالك . . من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور . . يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى : اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكى ? وأهديك إلى ربك فتخشى ? فأراه الآية الكبرى ، فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى ، فحشر فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى . . وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .
ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء ? بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ؛ والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها ، متاعا لكم ولأنعامكم ) . .
وهنا - بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية - يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، وبرزت الجحيم لمن يرى ! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) . .
وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ، والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . . في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ? فيم أنت من ذكراها ? إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) . . والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل !
( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعا شديدا .
{ 1 - 14 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ }
هذه الإقسامات بالملائكة الكرام ، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله ، وإسراعهم في تنفيذ أمره ، يحتمل أن المقسم عليه ، الجزاء والبعث ، بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك ، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به متحدان ، وأنه أقسم على الملائكة ، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة ، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة عند الموت وقبله وبعده ، فقال : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة ، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح ، فتجازى بعملها .
سورة النازعات{[1]} وتسمى الساهرة{[2]} والطامة
مقصودها بيان أواخر{[3]}أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام ، و{[4]} وقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام{[5]} ، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام ، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام ، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي{[6]} الملائكة الكرام ، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام ، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام ، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام ، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق ، وحصل التدبر في تقرير الوفاق { بسم الله } الظاهر الباطن الملك العلام { الرحمن } الذي عم بالإنعام { الرحيم* } الذي خص {[7]}أهل ولايته{[8]} بالتمام ، فاختصوا بالإكرام في دار السلام .
لما ذكر سبحانه يوم{[71294]} يقوم الروح ويتمنى الكافر العدم ، أقسم أول هذه بنزع الأرواح على الوجه الذي ذكره بأيدي الملائكة عليهم السلام على ما يتأثر عنه من البعث وساقه على وجه التأكيد بالقسم لأنهم به مكذبون فقال تعالى : { والنازعات } أي من الملائكة - كما قال علي وابن عباس رضي الله عنهم - للأرواح ولأنفسها من مراكزها{[71295]} في السماوات امتثالاً{[71296]} للأوامر الإليهة { غرقاً * } أي إغراقاً بقوة شديدة تغلغلاً إلى أقصى المراد من كل شيء من البدن حتى الشعر والظفر والعظم كما يغرق النازع في القوس فيبلغ أقصى المدّ ، وكان ذلك لنفوس الكفار{[71297]} والعصاة كما ينزع السفود وهو الحديدة المتشعبة المتعاكسة الشعب من الصوف المبلول ، وعم ابن جرير{[71298]} كما هي عادته في كل ما يحتمله اللفظ فقال : والصواب أن يقال : إن الله تعالى لم يخصص ، فكل نازعة داخلة في قسمه - يعني الاعتبار بما آتاها{[71299]} الله من القدرة على ذلك النزع الدالة على تمام الحكمة والاقتدار على ما يريده{[71300]} سبحانه .
هذه السورة مكية وآياتها ست وأربعون . وهي مبدوءة بجملة أقسام ، إذ يقسم الله بأجزاء من خلقه على أن الساعة حق وأن الناس مبعثون من قبورهم ليساقوا إلى المحشر حيث الحساب والجزاء .
وفي السورة تذكير بقصة موسى { إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } إذ أمره الله أن يذهب إلى فرعون فينذره ويحذره فظاعة ظلمه وطغيانه لكنه بشقوته أبى وعتا واستكبر ، وقال مقالته الظالمة النكراء { أنا ربكم الأعلى } فانتقم الله منه بذلك أشد انتقام جزاء مقالته هذه والتي سبقتها وهي قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } .
وفي السورة تذكير بجيئة الطامة الكبرى . لا جرم أن التسمية بهذا الاسم القارع المثقل ، يصوّر للأذهان والأخيلة والجنان فظاعة هذا الحدث الكوني المرعب الذي توضع فيه الموازين ، وتجتمع فيه الخلائق كافة لتناقش الحساب . وحينئذ تغشى الناس غاشية من الذعر والحسرة والندم ، وليس لها من دون كاشفة ولا منجاة .
{ والنازعات غرقا 1 والناشطات نشطا 2 والسابحات سبحا 3 فالسابقات سبقا 4 فالمدبرات أمرا 5 يوم ترجف الراجفة 6 تتبعها الرادفة 7 قلوب يومئذ واجفة 8 أبصارها خاشعة 9 يقولون أإنّا لمردودون في الحافرة 10 أإذا كنا عظاما نخرة 11 قالوا تلك إذا كرّة خاسرة 12 فإنما هي زجرة واحدة 13 فإذا هم بالساهرة } .
هذه أشياء من خلق الله قد أقسم الله بها على أن القيامة حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها فقال سبحانه : { والنازعات غرقا } فقد أقسم الله بالنازعات وهي الملائكة التي تنزع أرواح الأشقياء والظالمين بغلظة وفظاظة { غرقا } منصوب على المصدر . أي تقذفها في النار عقب انتزاعها من الأجساد .