ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون :
( حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين ) !
وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة . ويطوى شريط الحياة السادرة ، ويصل العمي ( الذين يعشون عن ذكر الرحمن )إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار . هنا يفيقون كما يفيق المخمور ، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال ؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال ، وأوهمه أنه الهدى !
وقاده في طريق الهلاك ، وهو يلوح له بالسلامة ! ينظر إليه في حنق يقول : ( يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) ! يا ليته لم يكن بيننا لقاء . على هذا البعد السحيق !
ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله : ( فبئس القرين ) !
المشرقين : أي المشرق والمغرب ، وبعد المشرقين ، أي : بعد أحدهما من الآخر .
38- { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } .
حتى إذا حشر هذا الكافر مقرونا بالسلاسل مع قرينه من الشياطين ، تبرم به ، وتمنى أن يكون الشيطان بعيدا عنه بعد المشرق من المغرب ، لأنه كان سبب إغوائه وإضلاله .
قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين ، فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار .
وقال الطبري وابن كثير وغيرهما :
المراد بالمشرقين ههنا : ما بين المشرق والمغرب ، وإنما استعمل ههنا تغليبا ، كما يقال :
بُعد المشرقين : يعني المشرق والمغرب ، بين المشرق والمغرب . والعرب تسمّي أحيانا الشيئين المتقابلين باسم أحدهما . كما نقول العُمَران : أبو بكر وعمر ، القمران : الشمس والقمر .
حتى إذا جاء ذلك الرجل يومَ القيامة إلى الله ورأى عاقبة إعراضه وكفرِه قال لقرينه نادماً : يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرق والمغرب ، فبئس الصاحبُ كنتَ لي ، حتى أوقعتني في الهاوية .
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وحفص : حتى إذا جاءنا بالإفراد . والباقون : جاءانا على التثنية .
قوله تعالى : { حتى إذا جاءنا } قرأ أهل العراق غير أبي بكر :{ جاءنا } على الواحد يعنون الكافر ، وقرأ الآخرون : { جاءانا } ، على التثنية يعنون الكافر وقرينه قد جعلا في سلسلة واحدة . { قال } الكافر لقرينه الشيطان :{ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر : القمران ، ولأبي بكر وعمر : العمران . وقيل : أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والأول أصح ، { فبئس القرين } قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار .
قوله تعالى : " حتى إذا جاءنا " على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يعني الكافر يوم القيامة . الباقون " جاءانا " على التثنية ، يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة ، فيقول الكافر : " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين " أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، كما قال تعالى : " رب المشرقين ورب المغربين " {[13642]} [ الرحمن : 17 ] ونحوه قول مقاتل . وقراءة التوحيد وإن كان ظاهرها الإفراد فالمعنى لهما جميعا ؛ لأنه قد عرف ذلك بما بعده ، كما قال :
وعينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ *** شَقَّتْ مآقيهما من أُخَرْ{[13643]}
قال مقاتل : يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرق أطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة ، ولذلك قال : " بعد المشرقين " . وقال الفراء : أراد المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما ، كما يقال : القمران للشمس والقمر ، والعمران لأبي بكر وعمر ، والبصرتان للكوفة والبصرة ، والعصران للغداة والعصر . وقال الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم *** لنا قَمَراها والنُّجومُ الطوالع
ما كان يرضى رسول الله فعلَهم *** والعمرانِ أبو بكر ولا عمر
قَدْنيَ من نصر الخُبَيبَيْن قَدِي
يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير ، وإنما أبو خبيب عبدالله . " فبئس القرين " أي فبئس الصاحب أنت ؛ لأنه يورده إلى النار . قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار .
ولما كان من ضل عن الطريق ، ومن ظن أنه على صواب لا يكاد يتمادى بل ينجلي له الحال عن قرب ضم إلى العجبين الماضيين عجباً ثالثاً بياناً له على ما تقديره : ونملي لهذا العاشي استدراجاً له وابتلاء لغيره ونمد ذلك طول حياته { حتى } وحقق الخبر بقوله : { إذا } ولما علم من الجمع فيما قيل أن المراد الجنس ، وكان التوحيد أدل دليل على تناول كل فرد ، فكان التعبير به أهول ، وكان السياق دالاً على من الضمير له قال : { جاءنا } أي العاشي ، ومن قرأ بالتثنية أراد العاشي والقرين { قال } أي العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل : { يا ليت بيني وبينك } أيها القرين { بعد المشرقين } أي ما بين المشرق والمغرب على التغليب - قاله ابن جرير وغيره ، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ؛ ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام : { فبئس القرين } أي إني علمت أنك الذي أضلني وأوصلني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض وأحسست في هذا الوقت بذلك الذي كنت تؤذيني به أنه أذى بالغ ، فكنت كالذي يحك جسمه لما به من قروح متأكلة حتى يخرج منه الدم فهو في أوله يجد له لذة بما هو مؤلم له في نفسه غاية الإيلام .