واللمسة الثالثة في هذا الشوط تجيء تعقيبا على دعوة الإيمان والبذل ، ودعوة الفداء والتضحية . تعقيبا يصور الدنيا كلها بصورة هزيلة زهيدة تهون من شأنها وترفع النفوس عنها ، وتعلقها بالآخرة وقيمها :
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، وتفاخر بينكم ، وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ، ثم يكون حطاما . وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . .
والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرا عظيما هائلا . ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئا زهيدا تافها . وهي هنا في هذا التصوير تبدوا لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة !
لعب . ولهو . وزينة . وتفاخر . وتكاثر . . . هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدوا فيها من جد حافل واهتمام شاغل . . ثم يمضي يضرب لها مثلا مصورا على طريقة القرآن المبدعة . . ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) . . والكفار هنا هم الزراع . فالكافر في اللغة هو الزارع ، يكفر أي يحجب الحبة ويغطيها في التراب . ولكن اختياره هنا فيه تورية وإلماع إلى إعجاب الكفار بالحياة الدنيا ! ( ثم يهيج فتراه مصفرا )للحصاد . فهو موقوت الأجل ، ينتهي عاجلا ، ويبلغ أجله قريبا ( ثم يكون حطاما ) . . وينتهي شريط الحياة كلها بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة . . ينتهي بمشهد الحطام !
فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن ، شأن يستحق أن يحسب حسابه ، وينظر إليه ، ويستعد له : ( وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ) . . فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا . وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله . . إنها حساب وجزاء . . ودوام . . يستحق الاهتمام !
( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . .
فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية ، إنما يستمد قوامه من الغرور الخادع ؛ كما أنه يلهي وينسي فينتهي بأهله إلى غرور خادع .
وهي حقيقة حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة . حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض ، ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري . إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية ، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض . هذا الاستعلاء الذي كان المخاطبون بهذه السورة في حاجة إليه ليحققوا إيمانهم . والذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة ، ليحقق عقيدته ؛ ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذه الحياة الدنيا جميعا .
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( 20 ) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 21 ) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 22 ) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 23 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 24 ) }
اللعب : ما لا ثمرة له كلعب الصبيان .
اللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه .
زينة : كالملابس الفاخرة يتزين بها أهلها .
تفاخر : بالأنساب والأموال ، أو تكبّر وتعال .
تكاثر في الأموال : مباهاة بكثرة العدد والعُدَد .
يهيج : يبتدئ في اليبس والجفاف بعد خضرته ونضارته .
حطاما : هشيما متكسرا من يبسه .
20-{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
الدنيا إلى فناء ، وهي مزرعة للآخرة ، وينبغي أن يعرف المؤمنون حقيقة الدنيا ، هي مظاهر كلعب الأطفال ، ولهو الشباب ، وزينة النساء ، وتفاخر بين أهل الدنيا بالملبس والمظهر ، أو التفاخر بالأموال والأولاد ، أو التباهي بما ملك الإنسان أو حازه ، فالدنيا ليست مذمومة في ذاتها ، لأنها يمكن أن تكون وسيلة لمرضاة الله ، وللصدقة وعمل الخير ، ولكن المذموم هو الغرور بالدنيا وحبها ، والرغبة المسرفة في المظهر والمنصب ، والجاه والسلطان ، بدون نية صالحة .
روي عن سعيد بن جبير أنه قال : الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة . فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى ، وطلب الآخرة ، فنعم المتاع ونعم الوسيلة .
الدنيا إذا حلت أوحلت ، وإذا كست أوكست ، فهي تحلى لتمرّ ، وتعطي لتأخذ ، وقد حذرنا القرآن من الغرور بالدنيا والتشبع بها ، فالمغرور من غرته الدنيا عن الآخرة ، ومن اعتبر الدنيا غايته فأخذ يركض وراء ما فيها من مال وجاه وسلطان مع أنه زائل ، والمتعلق بالدنيا كالطفل المتعلق باللعب واللهو ، والزينة والمظهر ، فإذا بلغ مرحلة الرجولة العقلية رأى بعين قلبه أن الدنيا إلى فناء ، وأن الآخرة إلى بقاء ، وإذا غرّت الدنيا الكفار والفجار والسطحيين في إيمانهم ، فينبغي ألا تغر المؤمنين الصادقين .
{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا . . . . }
أي : ما مثل الدنيا في سرعة تحوّلها وفنائها وانقضائها ، إلا كمثل زرع أصابه غيث من المطر النافع ، فاخضرّ ونما ، وصار بهجة للناظرين ، يعجب الزراع ويجعلهم في غبطة وحبور ، وبهجة وسرور ، لكن خضرة الزرع وجماله وشبابه لا تدوم ، فبعد فترة محدودة يقترب موسم الحصاد ، فيصفرّ الزرع ، ويدنو قطف الثمرة ، وتتحول الأوراق إلى قش متكسّر يابس ، ثم تكون هشيما تذروه الرياح .
الكفار : الزرّاع ، وسمي الزارع كافرا ، لأنه يكفر النبات ، فيستره بالأرض ، ويسقيه حتى ينبت ، وسمي الكافر بالله كافرا ، لأنه ستر نعمة الله عليه وجحدها ، فلم يؤمن بالله .
ثم ذكر القرآن هنا عاقبة المنهمكين في الدنيا ، المغترين بلهوها وعبثها وزينتها ، المنشغلين بها عن الإيمان والجهاد وطلب ما عند الله ، وذكر عاقبة المتقين المعرضين عن الغرور بالدنيا ، الطالبين لرضوان ربّهم ، فقال : { وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ . . . }
أي : هذه هي الدنيا الفانية ، ثم يفتح القرآن العيون على الآخرة ، والناس فيها صنفان : صنف في عذاب شديد دائم لمن كفر بالله وأهمل تعاليمه ، وصنف في مغفرة من الله تعالى ، وبحبوحة من رضوانه ، لأنه أطاع ربّه وعمل بأوامره ، وجعل دنياه مزرعة لآخرته .
روى ابن جرير ، وجاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " موضع سوط في الجنة ، خير من الدنيا وما فيها ، اقرؤوا : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ . 18 }
وأخرج البخاري ، وأحمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَلجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك " 19
هكذا الدنيا ، تكون أولا شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوز شوهاء ، والإنسان يكون كذلك في أوّل عمره وعنفوان شبابه ، غضا طريّا ، لين الأعطاف ، بهيّ المنظر ، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى . أ . ه .
قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } . ( الروم : 54 ) .
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
ما هذه الحياة الدنيا إلى متاع فان زائل ، خادع لمن ركن إليها واغترّ بها ، وظن أنها غاية ونهاية ، فمن ألهته الدنيا عن الآخرة فهو المغبون ، ومن نظر إلى الدنيا نظرة فاحصة ، فاعتبرها وسيلة وتزوّد منها بالصالحات فهو الناجح .
إن لله عبادا فطنا *** طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا
حسبوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا
إنما الدنيا كبيت *** نسجته العنكبوت
كل ما فيها لعمري *** عن قريب سيموت
إنما يكفيك منها *** أيها الراغب قوت
ونحن إذا نظرنا إلى روح الإسلام ، نجد أنه لا يدعو إلى الانعزالية ، ولا إلى رفض الدنيا ، وإنما يريد الإسلام مسلما متوازنا ، يعمر الدنيا بالعلم والزراعة والصناعة ، والتفوق الطبي والعلمي والأخلاقي ليكون نموذجا رائعا يعمر الدنيا بالقيم والعمل والأمل . ولذلك قال الله تعالى : { ولا تنس نصيبك من الدنيا . . . } ( القصص : 77 ) .
وفي الحديث الصحيح : " إن لربك عليك حقا ، وإن لبدنك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لضيفك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقّه " 20
وفي القرون الوسطى الإسلامية وردت مواعظ كثيرة ، وأشعار متعددة ، تزهّد الناس في الدنيا ، والغنى والتفوّق والتقدم ، وأصيب الناس بالتواكل والكسل ، والزهد والانحطاط ، ولا أقول التواضع ، بينما نهض الغرب وقويت جيوشه وأساطيله ، فاستعمر بلاد الإسلام ، ورأينا مصر والسودان والعراق تحت حكم إنجلترا ، ورأينا الجزائر والمغرب والشام تحت حكم فرنسا ، ثم جاءت الصحوة الإسلامية الحديثة ، فاختفت نغمة الزهد الأبله ، والمسكنة والانحطاط ، ورأينا دعوة للأمة الإسلامية إلى استرداد مكانها ومكانتها ، لتكون بحق كما قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أُخرجت للناس . . . }( آل عمران : 110 ) .
وكما قال سبحانه : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا . . . } ( البقرة : 143 ) .
ومن هذه الوسطية ألا نترك الدنيا للآخرة ، ولا الآخرة للدنيا ، بل نعمل للدنيا لنكون فيها سادة وقادة ، وأعزّاء أقوياء ، ونجعل من الدنيا وسيلة لإعزاز ديننا وأنفسنا .
وفي الحديث الشريف : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " .
وقد تكرر في القرآن الكريم وصف الدنيا ، وسرعة تحوّلها ، وغرور أهلها بها ، ثم تفلّتها من بين أيديهم ، مثل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } . ( الكهف : 45-46 ) .
وإلى جوار ذلك دعوة رائدة إلى العمل والتفوّق .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } . ( الكهف : 30 ) .
علينا أن نملك الدنيا ثم نزهد فيها ، ونجعلها وسيلة لعزّ الدنيا وسعادة الآخرة ، وأن يكون المسلم صاحب شخصية متوازنة ، تعمل للدنيا بدون طمع أو جشع ، وتعمل للآخرة بكل قصد سليم ونية صالحة ، ودعاء خالص لله : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . ( البقرة : 201 ) .
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو . . . } بيان لحال الحياة الدنيا التي ركن إليها الكفار المكذبون ، واطمأنوا بها ، وقصروا همهم عليها ، ولم يبالوا بأنها من المحقرات التي لا يركن إليها العقلاء . إذ هي لعب لا ثمرة له سوى التعب ، ولهو شاغل عما يعنى ويهم ، وزينة لا يحصل منها شرف ذاتي ؛ كالملابس الجميلة والمراكب البهية . وتفاخر بالأنساب والعظام البالية ، وتكاثر بالعدد والعدد . { كمثل غيث أعجب الكفار نباته . . . } تقرير لما وصفت به الدنيا ، وتمثيل لها في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها وقلة جدواها ؛ للتنفير عن العكوف عليها ، وجعلها الغاية والمقصد الأعلى – بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث ، ثم هاج – أي – يبس – بعاهة بعد نضارته . أو ثار ونما إلى أقصى ما يتأتى له ؛ فاصفر بعد الخضرة ؛ ثم صار حطاما هشيما من اليبس . و " كمثل " خبر مبتدأ محذوف ؛ أي مثلها كمثل . و " الكفار " الزراع الذين يحرثون الأرض ويبذرون فيها البذر .
وسموا كفارا من الكفر وهو الستر ؛ لسترهم البذر في الأرض للإنبات . وقيل : هم الكافرون بالله سبحانه . وخصوا بالذكر لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا واغترارا بها . و " يهيج " [ آية 21 الزمر ص 253 ] .
{ 20-21 } { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه ، ويبين غايتها وغاية أهلها ، بأنها لعب ولهو ، تلعب بها الأبدان ، وتلهو بها القلوب ، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا ، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب ، والغفلة عن ذكر الله{[988]} وعما أمامهم من الوعد والوعيد ، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة ، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله ، ومعرفته ومحبته ، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله ، من النفع القاصر والمتعدي .
[ وقوله : ] { وَزِينَةً } أي : تزين في اللباس والطعام والشراب ، والمراكب والدور والقصور والجاه . [ وغير ذلك ] { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أي : كل واحد من أهلها يريد مفاخرة الآخر ، وأن يكون هو الغالب في أمورها ، والذي له الشهرة في أحوالها ، { وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } أي : كل يريد أن يكون هو الكاثر لغيره في المال والولد ، وهذا مصداقه ، وقوعه من محبي الدنيا والمطمئنين إليها .
بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها ، فجعلها معبرا ولم يجعلها مستقرا ، فنافس فيما يقربه إلى الله ، واتخذ الوسائل التي توصله إلى الله{[989]} وإذا رأى من يكاثره وينافسه بالأموال والأولاد ، نافسه بالأعمال الصالحة .
ثم ضرب للدنيا مثلا بغيث نزل على الأرض ، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام ، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ، وأعجب نباته الكفار ، الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا{[990]} جاءها من أمر الله [ ما أتلفها ] فهاجت ويبست ، فعادت على حالها الأولى ، كأنه لم ينبت فيها خضراء ، ولا رؤي لها مرأى أنيق ، كذلك الدنيا ، بينما هي زاهية لصاحبها زاهرة ، مهما أراد من مطالبها حصل ، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة ، إذ أصابها القدر بما أذهبها من يده{[991]} ، وأزال تسلطه عليها ، أو ذهب به عنها ، فرحل منها صفر اليدين ، لم يتزود منها سوى الكفن ، فتبا لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه .
وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع ، ويدخر لصاحبه ، ويصحب العبد على الأبد ، ولهذا قال تعالى : { وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } أي : حال الآخرة ، ما يخلو من هذين الأمرين : إما العذاب الشديد في نار جهنم ، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ومنتهى مطلبه ، فتجرأ على معاصي الله ، وكذب بآيات الله ، وكفر بأنعم الله .
وإما مغفرة من الله للسيئات ، وإزالة للعقوبات ، ورضوان من الله ، يحل من أحله{[992]} به دار الرضوان لمن عرف الدنيا ، وسعى للآخرة سعيها .
فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، ولهذا قال : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } أي : إلا متاع يتمتع به وينتفع به ، ويستدفع به الحاجات ، لا يغتر به ويطمئن إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور .
قوله عز وجل :{ اعلموا أنما الحياة الدنيا } أي : أن الحياة الدنيا " وما " صلة ، أي : إن الحياة في هذه الدار ، أي : إن الحياة في هذه الدار ، { لعب } باطل لا حاصل له ، { ولهو } فرح ثم ينقضي ، { وزينة } منظر تتزينون به ، { وتفاخر بينكم } يفخر به بعضكم على بعض ، { وتكاثر في الأموال والأولاد } أي : مباهاة بكثرة الأموال والأولاد ، ثم ضرب لها مثلاً فقال : { كمثل غيث أعجب الكفار } أي : الزراع ، { نباته } ما نبت من ذلك الغيث ، { ثم يهيج } ييبس ، { فتراه مصفراً } بعد خضرته ونضرته ، { ثم يكون حطاماً } يتحطم ويتكسر بعد يبسه ويفنى ، { وفي الآخرة عذاب شديد } قال مقاتل : لأعداء الله ، { ومغفرة من الله ورضوان } لأوليائه وأهل طاعته . { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } قال سعيد بن جبير : متاع الغرور لمن لم يشتغل فيها بطلب الآخرة ، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه .
قوله تعالى : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل ، وخوفا من لزوم الموت ، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى . و " ما " صلة تقديره : اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي . وقال قتادة : لعب ولهو : أكل وشرب . وقيل : إنه على المعهود من اسمه ، قال مجاهد : كل لعب لهو . وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام{[14719]} " وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة ، أي شغل عنها . وقيل : اللعب الاقتناء ، واللهو النساء . " وزينة " الزينة ما يتزين به ، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة ، وكذلك من تزين في غير طاعة الله . " وتفاخر بينكم " أي يفخر بعضكم على بعض بها . وقيل : بالخلقة والقوة . وقيل : بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب ) الحديث . وقد تقدم جميع هذا . " وتكاثر في الأموال والأولاد " لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال ، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة . قال بعض المتأخرين : " لعب " كلعب الصبيان " ولهو " كلهو الفتيان " وزينة " كزينة النسوان " وتفاخر " كتفاخر الأقران " وتكاثر " كتكاثر الدُِّهقَان{[14720]} . وقيل : المعنى إن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء . وعن علي رضي الله عنه قال لعمار : لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء : مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح ، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة ، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة ، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة ، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال ، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال ، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها . ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال : " كمثل غيث " أي مطر " أعجب الكفار نباته " الكفار هنا : الزراع لأنهم يغطون البذر{[14721]} . والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن ، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن . وقد مضى معنى هذا المثل في " يونس{[14722]} " و " الكهف{[14723]} " . وقيل : الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل ، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين . وهذا قول حسن ، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم ، ومنهم يظهر ذلك ، وهو التعظيم للدنيا وما فيها . وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم ، وتتقلل عندهم وتدِق إذا ذكروا الآخرة . وموضع الكاف رفع على الصفة . " ثم يهيج " أي يجف بعد خضرته " فتراه مصفرا " أي متغيرا عما كان عليه من النضرة . " ثم يكون حطاما " أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه ، كذلك دنيا الكافر . " وفي الآخرة عذاب شديد " أي للكافرين . والوقف عليه حسن ، ويبتدئ " ومغفرة من الله ورضوان " أي للمؤمنين . وقال الفراء : " وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة " تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة ، فلا يوقف على " شديد " . " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " هذا تأكيد ما سبق ، أي تغر الكفار ، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة . وقيل : العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا ، وترغيبا في العمل للآخرة .
ولما ذكر سبحانه{[62541]} حال الفريقين : الأشقياء والسعداء ، فتقرر{[62542]} بذلك أمر الآخرة ، فعلموا أنها الحيوان الذي لا انقضاء له من إكرام أو هوان ، وكان الموجب للهوان فيها إنما هو الإقبال على الدنيا لحضورها ونسيان الآخرة لغيابها{[62543]} ، قال منتجاً مما{[62544]} مضى مبيناً لحقيقة ما يرغب فيه المكلف المركب على الشهوة من العاجلة بما نزهه فيه مصدّراً له بما يوجب غاية اليقظة والحضور{[62545]} : { اعلموا } أي أيها العباد المبتلون ، وأكد المعنى بزيادة { ما } لما{[62546]} للناس من الغفلة عنه فقال قاصراً قصر قلب : { إنما الحيوة الدنيا } أي الحاضرة التي رغبت في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن { لعب } أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان { ولهو } أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان ، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال : { وزينة } أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان ، وأتبعها ثمرتها فقال : { وتفاخر } أي كتفاخر{[62547]} الأقران يفتخر بعضهم على بعض .
ولما كان ذلك مخصوصاً بأهل الشهوات قال : { بينكم } أي يجر إلى الترفع الجارّ إلى الحسد والبغضاء ، ثم أتبع ذلك ما يحصل به الفخر فقال : { وتكاثر } أي من الجانبين { في الأموال } أي التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة { والأولاد } الذين لا يغتر بهم إلا سفيه لأنهم الأعداء ، وأن جميع ما ذكر زائل وأن الدنيا آفاتها هائلة ، وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره ، ثم إلى ذلك كله {[62548]}قد يكون{[62549]} ذهابه عن قرب فتكون على أضداد ما كان عليه ، فيكون أشد في الحسرة ، ومطابقة ذلك لما بعده ان الإنسان ينشأ في حجر وليه فيشب ويقوى ويكسب المال والولد وتغشاه الناس فيكون بينهم أمور معجبة وأحوال ملهية مطربة ، فإذا تم شبابه وأطفأه مجيئه وذهابه وأشكاله وأترابه ، أخذ في الانحطاط ولا يزال حتى يشيب ويسقم ويضعف ويهرم وتصيبه النوائب والقوارع والمصائب في ماله وجسمه وأولاده وأصحابه ، ثم في آخر ذلك يموت ، فإذا قد اضمحل أمره ونسي عما قليل ذكره ، وصار ماله لغيره وزينته متمتعاً بها سواه فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها وأقل منها خطر المزاحم فيها ، فما هي إلا جيفة ، وطلاب الجيفة ليس لهم خطر ، وأخسهم من بخل بها ، قال القشيري : وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخر فكل ما يشغله عن الآخرة{[62550]} فهو الدنيا - انتهى .
ولما قرر سبحانه أنها ظل زائل وعرض هائل ، وكان بعض الناس يتنبه فيشكر{[62551]} وبعضهم يعمى فيكفر ، كان القسم الثاني أكثر لأن وجودها وإقبالها يعمي أكثر القلوب عن حقارتها ، ضرب لذلك مثلاً مقرراً لما مضى من وصفها لأن للأمثال{[62552]} في تقرير الأشياء وتصويرها ما ليس لغيرها فقال تعالى : { كمثل } أي هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل { غيث } أي مطر حصل بعد جدب و{[62553]}سوء حال .
ولما كان المثل في سياق التحقير للدنيا والتنفير عنها ، عبر عن الزراع بما ينفر فقال : { أعجب الكفار } أي الزراع الذين حصل منهم{[62554]} الحرث والبذر الذي يستره الحارث بحرثه كما ستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان لما يحصل من الجحد والطغيان ولا يتناهى إعجاب{[62555]} الزارع إلى{[62556]} حد يلهي عن الله إلا مع الكفر به سبحانه فإن المؤمن وإن أعجبه ذلك يتذكر به قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وما أعد لأهل طاعته في الآخرة ، فيحمله ذلك على الطاعة ، فالتعبير بالكفار الذي هو بمعنى الزراع دونه إشارة إلى عظمة ذلك النبات فإنه لا يعجب العارفين به الممارسين له الذين لهم غاية الإقبال على تلك الحرفة فالمنافسة فيها إلا ما يكون منها{[62557]} نهاية في الإعجاب ، وإلى أنه لا يعجب أحداً شيء من الدنيا إعجاباً يركن ويأنس به أنساً يؤدي إلى ما في الآية من اللهو وما معه إلا لكفر في نفسه أقله كفر النعمة التي من شأنها أن تدعو إلى تذكر الخالق{[62558]} وتذكر الجميل على الشكر ، وترك الشكر كفر { نباته } أي نبات ذلك الغيب كما يعجب الكافر في الكفر في الغالب بسط الدنيا له استدراجاً من الله تعالى .
ولما كان الزرع يشيخ بعد مُدَيدة فيضمحل كما هو شأن الدنيا كلها قال{[62559]} : { ثم يهيج } أي يسرع تحركه فيتم جفافه فيحين حصاده { فتراه مصفراً } أي{[62560]} عقب ذلك وبالقرب منه على حالة لا ثمر معها بل{[62561]} ولا نبات ، ولذلك قال معبراً بالكون لأن السياق للتزهيد في الدنيا وأنها ظل زائل لا حقيقة لها{[62562]} : { ثم } أي بعد تناهي جفافه{[62563]} وابيضاضه { يكون } أي كوناً كأنه مطبوع عليه ، وأبلغ سبحانه في تقرير اضمحلاله بالإتيان مع فعل الكون هنا للمبالغة لأن السياق لتقرير أن الدنيا عدم وإن كانت في غاية الكثرة والإقبال والمؤاتاة{[62564]} بخلاف ما مضى في الزمر فقال : { حطاماً } كأن الحطامية{[62565]} كانت في جبلته وأصل طبعه .
ولما ذكر الظل الزائل ، ذكر أثره{[62566]} الثابت الدائم مقسماً له على قسمين ، فقال عاطفاً على ما تقديره هذا حال الدنيا في سرعة زوالها وتحقق فنائها واضمحلالها{[62567]} : { وفي } أي هذا الذي غر من حال الدنيا وهو في { الآخرة } على أحدهما { عذاب شديد } أي لمن أخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله لأن الاغترار بها سببه ، فكان كأنه هو .
ولما قدم ما هو السبب الأغلب لأن أكثر الخلق هالك ، أتبعه الصنف الناجي . فقال : { ومغفرة } أي لأهل الدرجة الأولى في الإيمان { من الله } أي الملك الأعظم لمن يذكر بما صنعه له في الدنيا عظمته سبحانه وجلاله فتاب من ذنوبه ، ورجع إليه في التطهير من عيوبه { ورضوان } لأهل الدرجة العليا وهم من أقبل عليه سبحانه فشكره حق شكره ببذل وسعه{[62568]} فيما يرضيه ، فآخر الآية تقسيم للدنيا على الحقيقة لئلا يظن من حصرها فيما ذكر أول الآية أنها لا تكون إلا كذلك ، فالمعنى أن الذي ذكره أولاً هو الأغلب لأحوالها وعاقبته النار ، وما كان منها من إيمان وطاعة ونظر توحيد لله وتعظيم ومعرفة تؤدي إلى أخذها تزوداً{[62569]} ونظرها اعتباراً وتعبداً ، فهو{[62570]} آخرة لا دنيا ، وقد تحرر أن مثل الغيث المذكور الحطام وتارة يعقبه نكد لازم وأخرى سرور دائم ، فمن عمل في ذلك عمل الحزمة فحرس الزرع مما يؤذيه وحصده في وقته وعمل فيه ما ينبغي ولم ينس حق الله فيه سره أثره وحمدت عاقبته ، ومن أهمل ذلك أعقبه الأسف ، وذلك هو مثل الدنيا : من عمل فيها بأمر الله أعقبته حطاميتها سروراً دائماً ، ومن أهمل ذلك{[62571]} أورثته حزناً لازماً ، وكما كان التقدير : فما الآخرة لمن سعى لها سعيها وهو مؤمن إلا حق مشهور وسعي مشكور ، عطف عليه قوله : { وما الحياة الدنيا } أي لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة{[62572]} { إلا متاع الغرور * } أي لهو في{[62573]} نفسه غرور{[62574]} لا حقيقة له إلا ذلك ، لأنه لا يجوز لمن أقبل على التمتع إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر .