والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها . وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي ، فإن شرا يمكن أن يعقب هذا الانفعال .
ونحن مضطرون أن نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود ، وأسرار النفس البشرية ، وأسرار هذا الجهاز الإنساني . فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ، ولا نملك لها حتى اليوم تعليلا . . هنالك مثلا ذلك التخاطر على البعد . وفيه تتم اتصالات بين أشخاص متباعدين . اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار بها وقيام التجارب الكثيرة المثبتة لها . ولا سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات . وكذلك التنويم المغناطيسي . وقد أصبح الآن موضعا للتجربة المتكررة المثبتة . وهو مجهول السر والكيفية . . وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني . . .
فإذا حسد الحاسد ، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار ، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته . فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان . وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في الغالب ، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك !
فهنا شر يستعاذ منه بالله ، ويستجار منه بحماه
والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور . ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به - وفق توجيهه - أعاذهم . وحماهم من هذه الشرور إجمالا وتفصيلا .
وقد روى البخاري - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، وقرأ فيهما ، " قل هو الله أحد " . . و " قل : أعوذ برب الفلق " . . و " قل : أعوذ برب الناس " . . ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . . وهكذا رواه أصحاب السنن . . .
والحسد : هو تمني زوال نعمة الغير ، وكذلك العائن الذي ينظر بعينه للشيء فربما آذاه بدون قصد ، والحاسد يتمنى زوال النعمة قاصدا ، وهو بلاء ومرض .
وقد صحّ في الحديث الشريف النهي عن الحسد وعن الاشتراك فيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاقدوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا )vii .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والحسد ، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب )viii .
تكلم العلماء كلاما طويلا عن السحر ، وخلاصة كلامهم رأيان :
الرأي الأول : أن السحر خيال وخداع أو خفة يد ، أو هم يوهم به الساحر الآخرين ، وقد ذهب إلى ذلك المعتزلة ، وقلدهم بعض العلماء .
الرأي الثاني : أن السحر يؤثّر حبّا وبغضا ، وقد ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر . . . ( البقرة : 102 ) .
وقد علّمنا الإسلام أن نلجأ ونتحصن بالله تعالى ، ويتم ذلك بما يأتي :
3- قراءة خواتيم سورة البقرة ، الآيتين الأخيرتين : آمن الرسول بما أنزل إليه . . . ( البقرة : 285 ) .
4- قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة ( ن والقلم ) ، وهما : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر ويقولون إنه لمجنون* وما هو إلا ذكر للعالمين . ( القلم : 51 ، 52 ) .
5- قراءة : ( بسم الله ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ) .
6- قراءة : قل هو الله أحد ، قل أعوذ برب الفلق ، قل أعوذ برب الناس .
8- دعاء الله بالحفظ ، مثل : فالله خيرا حافظا وهو أرحم الراحمين . ( يوسف : 64 ) .
9- اليقين الجازم بأن كل أمر بيد الله ، فهو سبحانه المسبب الحقيقي ، والمخلوق ما هو إلا سبب ، قال تعالى : وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله . . . ( البقرة : 102 ) .
اللهم احفظنا من كل سوء ، اللهم احفظنا من السحر والحسد ، ومن شر كل نفس أنت آخذ بناصيتها ، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان .
اللهم غارت النجوم ، نامت العيون ، وبقيت أنت يا حي يا قيوم ، اهد ليلي وأنم عيني .
اللهم رب السماء وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، والشياطين وما أظلّت ، كن لي جارا من شرار خلقك عزّ جارك .
تم بفضل اله تعالى وتوفيقه تفسير سورة ( الفلق ) بعد منتصف ليلة الخميس 22 من ربيع الأول 1422 ه ، الموافق 14/6/2001 .
i تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 30/214 .
ii تفسير جزء عم للإمام محمد عبده ، ص138 .
iii وفي الحديث : ( لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها ) .
أي : لا ينبغي للمرأة أن تطلب من الزوج طلاق زوجته لتحل محلها ، وتأكل في إنائها وتحتل مكانتها ، ومن النساء من يحلو لهن إفساد ما بين الزوج وزوجته ، أو خطف الرجل من امرأته وهو كيد نستعيذ بالله منه .
iv كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه :
روى البخاري في فضائل القرآن ( 5018 ) وأبو داود في الأدب ( 5056 ) والترمذي في الدعوات ( 3402 ) وأحمد في مسنده ( 24332 ) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما : قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات .
v كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان :
رواه الترمذي في الطب ( 2058 ) والنسائي في الاستعاذة ( 5494 ) من حديث أبي سعيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حنى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما .
قال أبو عيسى : وفي الباب عن أنس ، وهذا حديث حسن غريب .
vi كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات :
روى البخاري في المغازي ( 4439 ) ومسلم في السلام ( 2192 ) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده فلما اشتكى وجعه الذي توفى فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه .
vii لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا :
رواه مسلم في البر ( 2564 ) والترمذي في البر ( 1927 ) وأحمد في مسنده ( 7670 ، 8042 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ها هنا –ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) .
viii إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات :
رواه أبو داود في الأدب ( 4903 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب ) .
ورواه ابن ماجة في الزهد ( 4610 ) من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار والصلاة نور المؤمن والصيام جنة من النار ) .
{ ومن شر حاسد إذا حسد } أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد ؛ بترتيب مقدمات الشر ، ومبادئ الإضرار بالمحسود قولا أو فعلا .
والحسد : حقيقة واقعة ، وأثره لا شك فيه . وأصله : انفعال نفس الحاسد عند رؤية نعمة على المحسود انفعالا شريرا يدفعه إلى مباشرة أسباب المضرة ، سواء أكان ذلك في حضور المحسود أم في غيبته .
وذكر العلامة الآلوسي : أن الحاسد إذا وجه نفسه الخبيثة نحو المحسود على وجه الغضب تتكيف بكيفية خبيثة ، ربما تؤثر في المحسود بحسب ضعفه ، وقوة نفس الحاسد ، وقد تصل إلى حد الإهلاك .
والحسد من الكبائر ، وهو أول ذنب عصي الله به في السماء . وأول ذنب عصي به في الأرض ؛ فحسد إبليس آدم ، وحسد قابيل هابيل .
وفي الحديث الصحيح : " لا تحاسدوا " .
والنهي عنه نهي عن مباشرة أسبابه ومباديه ، ومتابعة النفس وطواعيتها فيه ، وتوجيهها إليه وإلى المحسود . وقانا الله شره .
{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } والحاسد ، هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود ، فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب ، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره ، وإبطال كيده ، ويدخل في الحاسد العاين ؛ لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع ، خبيث النفس ، فهذه السورة ، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور ، عمومًا وخصوصًا .
ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره ، ويستعاذ بالله منه [ ومن أهله ] .
الثامنة : قوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } قد تقدم في سورة " النساء " معنى الحسد{[16608]} ، وأنه تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها . والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزُل . فالحسد شر مذموم ، والمنافسة مباحة ، وهي الغبطة . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد " . وفي الصحيحين : " لا حسد إلا في اثنتين " يريد لا غبطة ، وقد مضى في سورة " النساء " {[16609]} والحمد لله .
قلت : قال العلماء : الحاسد لايضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود ، فيتبع مساوئه ، ويطلب عثراته . قال صلى الله عليه وسلم : { إذا حسدت فلا تبغ . . } الحديث ، وقد تقدم .
والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ، فحسد إبليس آدم ، وحسد قابيل هابيل .
والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ، ولقد أحسن من قال :
قل للحسود إذا تَنَفَّسَ طعنةً *** يا ظالما وكأنهُ مظلومُ
التاسعة : هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر ، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من جميع الشرور . فقال : { من شر ما خلق } . وجعل خاتمة ذلك الحسد ، تنبيها على عظمه ، وكثرة ضرره . والحاسد عدو نعمة الله .
قال بعض الحكماء : بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه :
أحدها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره .
وثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه ، كأنه يقول : لم قسمت هذه القسمة ؟
وثالثها : أنه ضادَّ فعل الله ، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهو يبخل بفضل الله .
ورابعها : أنه خذل أولياء الله ، أو يريد خذلانهم ، وزوال النعمة عنهم .
وخامسها : أنه أعان عدوه إبليس .
وقيل : الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء ، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما ، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا ، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم : آكل الحرام ، ومكثر الغيبة ، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين " . والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد ، وهو تمني زوال نعمة المحسود :
وداريت كل الناس إلا لحاسد *** مداراته عزت وشق نوالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمة *** إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
قال تعالى : { ومن شر حاسد } أي ثابت الاتصاف بالحسد معرق فيه ، ونكّره ؛ لأنه ليس كل حاسد مذموماً ، وأعظم الحسدة الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات .
ولما كان الضار من الحسد إنما هو ما أظهر وعمل بمقتضاه بالإصابة بالعين أو غيرها ، قال مقيداً له : { إذا حسد * } أي حسد بالفعل بعينه الحاسدة ، وأما إذا لم يظهر الحسد فإنه لا يتأذى به إلا الحاسد ، لاغتمامه بنعمة غيره ، وفي إشعار الآية الدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين ؛ لأن خير الناس من عاش محسوداً ، ومات محسوداً ، ولمن لم يلق بالاً للدعاء بذلك ، ويهتم بتحصيل ما يحسد عليه ، ضحك منه إبليس إذا تلا هذه الآية ، لكونه ليس له فضيلة يحسد عليها ، ولعله عبر بأداة التحقيق إشعاراً بأن من كان ثابت الحسد متمكناً من الاتصاف به بما أشعر به التعبير بالوصف تحقق منه إظهاره ، ولم يقدر على مدافعته في الأغلب إلا من عصم الله تعالى ، وقد علم بكون الحسد علة السحر الموقع في القتل الذي هو أعظم المعاصي بعد الشرك وفي الشرك ؛ لأنه لا يصح غاية الصحة إلا مع الشرك أن الحسد شر ما انفلق عنه ظلام العدم ، والشاهد لذلك غلبته على الأمم السالفة ، وتحذير الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس منه بشهادة هاديها صلى الله عليه وسلم .
أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، ألا والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول : إنها تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين " . وفي الباب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مسعود رضي الله عنه ، وأعظم أسباب الحالقة أو كلها الحسد .
فعلم بهذا رجوع آخر السورة على أولها ، وانعطاف مفصلها على موصلها ، ومن أعيذ من هذه المذكورات انفلق سماء قلبه عن شمس المعرفة بعد ظلام ليل الجهل ، فأشرقت أرجاؤه بأنوار الحكم ، إلى أن يضيق الوصف له عن بدائع الكشف :
هناك ترى ما يملأ العين قرة *** ويسلي عن الأوطان كل غريب
فينقطع التعلق عما سوى الله بمحض الاتباع والبعد عن الابتداع بمقتضى{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }[ آل عمران : 31 ] .
وقد بطل بالأمر بالاستعاذة قول الجبرية : إنا كالآلة ، لا فعل لنا أصلاً ، وإنما نحن كالحجر لا يتحرك إلا بمحرك ؛ لأنه لو كان هو المحرك لنا بغير اختيار لم يكن للأمر فائدة . وقول القدرية : إنا نخلق أفعالنا ، وقول الفلاسفة : إنه إذا وجد السبب والمسبب حصل التأثير من غير احتياج إلى ربط إلهي ، كالنار والحطب ؛ لأنه لو كان ذلك لكانت هذه الأفعال المسببات إذا وجدت من فاعليها الذين هم الأسباب ، أو الأفعال التي هي الأسباب ، والمسببات التي هي الأبدان المراد تأثيرها أثرت ولم تنفع الاستعاذة ، والشاهد خلافه ، وثبت قول الأشاعرة أهل السنة والجماعة :إنه إذا وجد السبب والمسبب توقف وجود الأثر على إيجاد الله تعالى ، فإن أنفذ السبب وجد الأثر ، وإن لم ينفذه لم يوجد ، والسورتان معلمتان بأن البلايا كثيرة ، وهو قادر على دفعها ، فهما حاملتان على الخوف والرجاء ، وذلك هو لباب العبودية ، وسبب نزول المعوذتين على ما نقل الواحدي عن المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين والبغوي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم " أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدبت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر شعر رأسه ، ويرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، يذوب ولا يدري ما عراه ، فبينا هو نائم ذات يوم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طب . قال : وما طب ؟ قال : سحر . قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي . قال : وبم طبه ؟ قال : بمشط ومشاطة . قال : وأين هو ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راغوفة في بئر ذروان - بئر في بني زريق ، والجف : قشر الطلع ، والراغوفة : حجر في أسفل البئر يقوم عليه المائح- ، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لعائشة رضي الله عنها : " يا عائشة ! أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ! " ، ثم بعث علياً والزبير وعمار بن ياسر رضي الله عنهم فنزحوا البئر كأنه نقاعة الحناء ، ثم نزعوا الصخرة وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه ، وأسنان مشطه ، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر " ، فأنزل الله سبحانه وتعالى سورتي المعوذتين ، وهما إحدى عشرة آية : الفلق خمس والناس ست ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نشط من عقال ، وجعل جبرئيل عليه الصلاة والسلام يقول : " بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، ومن حاسد وعين ، والله يشفيك " ، فقالوا : يا رسول الله ! أفلا نأخذه فنقتله ؟ فقال : " أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أثير على الناس شراً " ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتى البئر بنفسه ، ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال : " والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، لكأن نخلها رؤوس الشياطين ، فقلت له : يا رسول الله ! " هلا أخرجته ؟ فقال : " أما أنا فقد شفاني الله ، وكرهت أن أثير على الناس منه شراً " ، ويجمع بأنه أتاها صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة فلم يخرجه ، ثم إنه وجد بعض الألم فأرسل إليه ، فأخرجه فزال الألم كله ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ، ثم قال : " أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه " ؟ قلت : وما ذاك يا رسول الله ، قال : " أتاني ملكان " فذكره ، وروى النسائي في المحاربة من سننه ، وأبو بكر ابن أبي شيبة وأحمد بن منيع ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم ، والبغوي في تفسيره ، كلهم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : كان رجل يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذ له ، فسحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى لذلك أياماً ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : " إن رجلاً من اليهود سحرك ، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا ، أو قال : فطرحه في بئر رجل من الأنصار ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخرجوها ، فجيء بها فحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال " ، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ، ولا رآه في وجهه قط .
وفي رواية : فأتاه ملكان يعوذانه ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجله ، فقال أحدهما : أتدري ما وجعه ؟ قال : كأن الذي يدخل عليه عقد له وألقاه في بئر ، فأرسل إليه رجلا- وفي رواية : علياً رضي الله عنه- فأخذ العقد فوجد الماء قد اصفر ، قال : فأخذ العقد فحلها فبرأ ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يذكر له شيئاً ولم يعاتبه فيه ، وهذا الفضل لمنفعة المعوذتين كما منح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكذا تفضل به على سائر أمته .
وروى أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ، والنسائي مسنداً أو مرسلاً ، قال النووي : بالأسانيد الصحيحة عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ { قل هو الله أحد } والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثة مرات يكفيك كل شيء " .
والأحاديث في فضل هذه السور الثلاث كثيرة جداً ، وجعل التعويذ في سورتين إشارة إلى استحباب تكريره ، وجعلتا إحدى عشرة آية ندباً إلى تكثيره في تكريره ، وقدمت الفلق التي خمس آيات مع ما مضى من المناسبات ؛ لأن اقترانها بسورة التوحيد أنسب ، وشفعها بسورة الناس التي هي ست آيات أنسب ، ليكون الشفع بالشفع ، والابتداء بالوتر بعد سورة الوتر ، وحاصل هذه السورة العظمى في معناها الأبدع الأسمى الاستعاذة بالله بذكر اسمه { الرب } المقتضي للإحسان والتربية بجلب النعم ودفع النقم من شر ما خلق ، ومن السحر والحسد ، كما كان أكثر البقرة المناظرة لها في رد المقطع على المطلع ، لكونها ثانية من الأول ، كما أن هذه ثانية من الآخر في ذكر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الحاسدين له على ما أوتي من النعم ، وفي تذكيرهم بما منحهم من النعم التي كفروها ، وأكثر ذلك في بني إسرائيل الذين كانوا أشد الناس حسداً له صلى الله عليه وسلم ، وكان من أعظم ما ضلوا به السحر المشار إليه بقوله تعالى :واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان }[ البقرة : 102 ] ، حتى قال : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } إلى أن قال :{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم }[ البقرة : 109 ] ، وكان السحر من أعظم ما أثر في النبي صلى الله عليه وسلم من كيدهم ، حتى أنزل فيه المعوذتان ، وكان الساحر له منهم .
وقد انقضى ما يسر الله من الكلام على انتظام معانيها بحسب تركيب كلماتها ، وبقي الكلام على كلماتها من حيث العدد ، فيما تشير إليه من البركات والمدد ، هي ثلاث وعشرون كلمة ، إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة والعشرين من النبوة يأمن من أذى حاسديه ، وذلك بالوفاة عند تمام الدين ويأس الحاسدين من كل شيء من الأذى في الدين والدنيا ، وخلاص النبي صلى الله عليه وسلم من كل كدر ، فإذا ضممت إليها الضمائر -وهي خمسة- كانت ثماني وعشرين ، وهي توازي سنة خمس عشرة من الهجرة ، وذلك عند استحكام أمر عمر رضي الله عنه في السنة الثانية من خلافته ببث العساكر ، وإنفاذه إلى ملك الفرس والروم ، وتغلغل هيبته في قلوبهم ، وتضعضع الفرس بغلب العرب على رستم أكبر أمرائهم ، والروم بغلبهم على ماهان أعظم رؤسائهم ، فاضمحل أمر المنافقين والحاسدين ، وأيسوا من تأثير أدنى كيد من أحد من الكائدين ، فإذا ضم إليها أربع كلمات البسملة كانت اثنتين وثلاثين ، إذا حسبت من أول النبوة وازتها السنة التاسعة عشرة من الهجرة ، وفيها كان فتح قيسارية الروم من بلاد الشام ، وبفتحها كان فتح جميع بلاد الشام ، لم يبق بها بلد إلا وهي في أيدي المسلمين ، فزالت عنها دولة الروم ، وفيها أيضاً كان فتح جلولاء من بلاد فارس ، وكان فتحاً عظيماً جداً هدّ أجنادهم وملوكهم ، ولذلك سمي فتح الفتوح ، وحصل حينئذ أعظم الخزي للفرس والروم الذين هم أحسد الحسدة ، لما كان لهم من العزة والقوة بالأموال والرجال ، وإن حسبت من الهجرة وازتها سنة انقراض ملك أعظم الحسدة الأكاسرة الذين شقق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرسل إلى عامله باذان - الذي كان استخلفه على بلاد اليمن - يأمره أن يغزو النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يقتله سبحانه في ليلة سماها ، فلما أتت تلك الليلة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم رسل باذان بذلك ، فرجعوا إلى باذان فأخبروه ، فقال : إن كان صادقاً فسيأتي الخبر في يوم كذا ، فأتى الخبر في ذلك اليوم بصدقه صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان ومن معه من الأبناء الذين كانوا في بلاد اليمن ، لم يتخلف منهم أحد ، وأوفد منهم وفداً على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم والله أعلم .