( ومريم ابنة عمران ) . . إنها كذلك مثل للتجرد لله منذ نشأتها التي قصها الله في سور أخرى . ويذكر هنا تطهرها : ( التي أحصنت فرجها ) . . يبرئها مما رمتها به يهود الفاجرة ! ( فنفخنا فيه من روحنا ) . ومن هذه النفخة كان عيسى عليه السلام ، كما هو مفصل في السورة المفصلة لهذا المولد " سورة مريم " فلا نستطرد معه هنا تمشيا مع ظل النص الحاضر ، الذي يستهدف تصوير طهارة مريم وإيمانها الكامل وطاعتها : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) . .
وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر . بسبب ملابسات حياتها التي أشرنا إليها . وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة ، ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل . .
وأخيرا فإن هذه السورة - وهذا الجزء كله - قطعة حية من السيرة ، رسمها القرآن بأسلوبه الموحي . لا تملك روايات البشر التاريخية عن تلك الفترة أن ترسمها . فالتعبير القرآني أكثر إيحاء ، وأبعد آمادا ، وهو يستخدم الحادثة المفردة لتصوير الحقيقة المجردة ، الباقية وراء الحادثة ووراء الزمان والمكان . . كما هو شأن القرآن . .
الفرج : شق جيب الدرع ( القميص ) إذ الفرج لغة : كل فُرجة بين الشيئين ، ويراد بذلك عفتها .
كلمات ربها : شرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله .
القانتين : الطائعين المخبتين إلى الله ، المتمثلين أوامره .
12- { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } .
ونموذج آخر للمثل الأعلى للمرأة المؤمنة ، و مريم ابنة عمران البتول الطاهرة المتعبدة الصالحة الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا . أي : حفظته من كل فاحشة ، كالحصن الذي يتحصن به الجنود فلا يصل إليهم الأعداء ، والمرأة المحصنة هي الفاضلة المستقيمة البعيدة عن الريبة ، فقد وصفها الله بالطهارة والاستقامة ، وبُعدها عن الفاحشة ، حيث أحصنت فرجها وحفظته عن الحرام .
وحينما ظهر لها جبريل في صورة بشر ، قالت : { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ( 18 ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ( 19 ) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( 20 ) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ( 21 ) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا . ( مريم : 18-22 ) } .
هذه المرأة رفعها إيمانها الكامل ، وطاعتها لربها ، وعفتها وإحصانها لفرجها ، وبُعدها عن الزنا والفاحشة ، فنفخ جبريل في جيب قميصها ، فوصلت النفخة إلى فرجها ، فحملت بعيسى عليه السلام ، كما هو مفصّل في سورة مريم وغيرها من السّور .
{ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } .
وآمنت بشرائع الله وكتبه وصحفه ، كصحف إدريس وصحف إبراهيم وموسى ، وصدقت ببشارة الله لها ، أنها ستحمل ولدا بدون أب ، ليكون آية بينة للبشرية كلها على قدرة الله الخارقة ، وأنه سبحانه هو المسبب للأسباب ، وأن أمره بين الكاف والنون .
قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } . ( يس : 82 ) .
وقال تعالى : { إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } . ( آل عمران : 59 )
وثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كَمُل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . 10
اشتملت سورة التحريم على ثلاثة أمور :
1-أخبار نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وحلفه ألا يشرب العسل إرضاء لبعضهن ، أو حلفه ألا يقرب مارية القبطية ، وأمره حفصة أن تكتم الموضوع فأفشته ، وأعلمه الله بذلك ، ثم أدّب لقرآن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم أدبا مناسبا .
2- ضرب الله مثلا للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط .
3- ضرب المثل للذين آمنوا بآسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران .
تم بحمد الله تعالى تفسير سورة ( التحريم ) ، وبه تمّ تفسير الجزء ( الثامن والعشرون ) ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وكان الفراغ منه عصر يوم السبت 16 من ذي القعدة 1421 ه ، 10/2/2001 م ، ونسأله تعالى المعونة والتوفيق والسداد ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
1 تفسير الطبري 28/102 ، وقد ورد ذلك في سنن النسائي من حديث أنس .
2 المغافير : صمغ حلو الطعام كريه الرائحة .
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4912 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها ، فواطيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليا فلتقل له : أكلت مغافير ، إني أجد منك ريح مغافير ، قال : " لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا " .
5 رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
6 في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 28/156 .
رواه مسلم في الأيمان ( 1650/13 ) والترمذي في النذور والأيمان ( 1530 ) وقال : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ، والنسائي في الكبرى في الأيمان والكفارات ( 4722/2 ) كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأبو داود في الأيمان والنذور ( 3277 ) والنسائي في الكبرى في الأيمان والنذور ( 4724/4 ) كلاهما عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه .
رواه أبو داود في الصلاة ( 495 ) وأحمد في مسنده ( 6650 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " .
9 ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن :
رواه الترمذي في البر ( 1952 ) وأحمد في مسنده ( 16269 ) من حديث أيوب بن موسى عن أبيه عن جده أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال : " ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن " .
قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عامر بن أبي عامر الخزاز ، وهو عامر بن صالح بن رستم الخزاز ، وأيوب بن موسى هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص ، وهذا عندي حديث مرسل .
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ( 3411 ) ومسلم في فضائل الصحابة ( 2431 ) والترمذي في الأطعمة ( 1834 ) من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " .
أحصنتْ فرجَها : عفّت عن الفجور فكانت عفيفة .
فنفخنا فيه : فخلقنا فيه الحياة .
بكلمات ربّها : بشرائعه وكتبه .
وكذلك ضربَ الله مثلا حالَ مريم ابنةِ عمرانَ التي عفّتْ وآمنت بكلماتِ ربّها ، فرزقَها الله عيسى بن مريم صلواتُ الله عليه وسلامه .
وفي هذه الأمثال عظةٌ للمؤمنين ، ولزوجاتِ الرسول الكريم ، وتخويفٌ لكل من تحدّثه نفسُه بأنه سينجو لأنه ابنُ فلان ، أو أنه قريبٌ لفلان من الصالحين .
ولا ينجّي الإنسانَ إلا عملُه وتقاه وإيمانه الخالص ، واللهُ وليّ الصالحين .
{ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه } أي في جيب درعها ، ولذلك ذكر الكناية ، { من روحنا وصدقت بكلمات ربها } يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة ، { وكتبه } قرأ أهل البصرة وحفص : { وكتبه } على الجمع ، وقرأ الآخرون : { وكتابه } على التوحيد . والمراد منه الكثرة أيضاً . وأراد بكتبه التي أنزلت على إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى عليهم السلام . { وكانت من القانتين } أي من القوم القانتين المطيعين لربها ولذلك لم يقل من القانتات . وقال عطاء : من القانتين أي : من المصلين . ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها ، فإنهم كانوا أهل صلاح مطيعين لله . وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين : مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون " .