وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون ، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والانحياز النهائي للصف المتميز ، والتجرد من كل عائق وكل جاذب ، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) . .
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين : ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله ! فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان .
( ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) . .
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين : لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) . .
فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار ، ولا انطماس فيه ولا غموض !
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق ، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
( ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) . .
جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ؛ ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية .
( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) . .
وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة ، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء ، في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . . ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ؛ فتقبلهم في كنفه ، وأفسح لهم في جنابه ، وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .
فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .
( ألا إن حزب الله هم المفلحون ) .
ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ?
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين : حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين : راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق ، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . . وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان ! !
لا نسب ولا صهر ، ولا أهل ولا قرابة ، ولا وطن ولا جنس ، ولا عصبية ولا قومية . . أنما هي العقيدة ، والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم ، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم ، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله ، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل ، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض ، ولا من جنس ، ولا من وطن ولا من لون ، ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . . لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة ، مما تعالجه هذه الآية في النفوس ، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم ، والمفاضلة القاطعة . . إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة ، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في شأنها وشأن زوجها !
فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .
يوادون من حاد الله : يصادقون .
ولو كانوا آباءهم : ولو كان المحادون أقرب الناس إليهم .
أو عشيرتهم : العشيرة هي القبيلة ، والجمع عشيرات وعشائر .
كتب في قلوبهم الإيمان : أثبت الإيمان في قلوبهم .
بروح منه : بنور من عند الله يقذفه في القلوب ، فتطمئن وتسكن .
حزب الله : جنده وأنصار دينه ، يتبعون أمره ويجتنبون نهيه .
هم المفلحون : الفائزون بخير الدّارين .
أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب ، قال : نزلت هذه الآية في عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر ، فنزل قوله تعالى :
{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ . . . } الآية .
وقال الرازي : إن الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا } . . . نزل في حاطب بن أبي بلتعة ، وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم لما أراد فتح مكة .
22- { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
لا ينبغي ولا يجوز لمن آمن بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، أن يجمع في قلبه بين الإيمان بالله واليوم الآخر ، وبين حب الكافرين الفاسقين ، لأن من أحب الله ورسوله كره عدوهما من الكفار والفسّاق والمنافقين ، ولو كان هذا الكافر أقرب الناس إليه ، كالأب والابن والأخ والقريب من العشيرة ، هؤلاء هم المؤمنون الصادقون الذين أخلصوا إيمانهم لله ، واستعلوا بإيمانهم على موالاة أعداء الله مهما كانت قرابتهم .
أولئك ثبَّت الله الإيمان في قلوبهم ، كما يثبت القول والعهد بكتابته ، ومنحهم الرضا والتوفيق ، والهدى والروح الطاهرة المتصلة بالله ، وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار ، فيها نعيم مقيم ، وخلود أبدي سرمدي ، مع قربهم من الله تعالى ورضوانه عنهم ، فقد فقدوا مودة آبائهم وأقاربهم من أجل مرضاة الله ، فعوضهم الله رضوانه عليهم ، فلا يسخط عليهم أبدا ، ومنحهم الرضا بالجنة ونعميها ، والرضا لقربهم من ربهم ومحبته ، فيا لها من نعمة ، نعمة الرضا المتبادل بينهم وبين ربهم وخالقهم ، الرضا بين العبد الفاني والإله الباقي ، الرضا بين المخلوق الضعيف والخالق القوي المتين ، الرضا بين مؤمن أرضى ربه في الدنيا فأرضاه الله في الآخرة .
{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
هؤلاء أحباب الله وأولياؤه ، وأهل رضاه ومحبته ، ومن كان في طريق الله ومرضاته فإنه أهل للفلاح والنجاح ، والفوز في الدنيا ، والسعادة في الآخرة .
نزلت هذه الآية في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر ، وفي أبي بكر الصديق همَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ ، وفي عمر بن الخطاب قتل قريبا له يومئذ ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ . 1ه .
أي أن منهم من قتل أباه ، ومنهم من قتل ابنه ، ومنهم من قتل أخاه ، ومنهم من قتل قريبا له ، ومنهم من قتل بعض أفراد عشيرته وأسرته ؛ فأنزل الله تعالى : { وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ . . . }
ومعنى هذا أن الله أنزل هذه الآية فيهم ، أي أنها مما ينطبق معناها عليهم ، ومما يشرح بعض مدلول الآية ، فقد قال علماء علوم القرآن : ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) ، أي أن الآية عامة في كل مؤمن يجعل مودَّته وطاعته وإخلاصه لله ، ولا يوالي أي قريب أو حبيب إذا كان من أعداء الله ، والآية مع ذلك تنطبق على أفراد من الصحابة قتلوا بعض أقاربهم مرضاة لله تعالى في غزوة بدر ، أو في غيرها من المواقع .
من أشباه هذه الآية قوله تعالى : { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ . . . }( آل عمران : 28 ) .
وقوله تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . ( التوبة : 24 ) .
ومن هذا القبيل حيث استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر ، فأشار الصديق بأن يُفادوا ، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله تعالى أن يهديهم ، وقال عمر : لا أرى يا رسول الله ، هل تمكنني من فلان – قريب لعمر – فأقتله ، وتمكن عليا من عقيل ، وتمكن فلانا من فلان ، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين ؟ .
قال ابن كثير : في قوله تعالى : { رضي الله عنهم ورضوا عنه . . . }سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى ، عوضهم الله بالرضا عنهم ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم .
يفهم من قوله تعالى : { حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . . . }وقوله في آية أخرى : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . . . }( الممتحنة : 1 ) . أن المراد بهم المحاربون لله ولرسوله ، الصادون عن سبيله ، المجاهرون بالعداوة والبغضاء ، وهم الذين أخبر عنهم قبل بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، فتشمل الآية المشركين وأهل الكتاب المحاربين المحادين لنا ، أي الذين على حد منا ومجانبة لشئوننا ، تحقيقا لمخالفتنا ، وترصدا للإيقاع بنا . وأما أهل الذمة الذين بين أظهرنا ، ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا ، واستكان لأحكامنا وقضائنا ، فأولئك لا تشملهم الآية ، لأنهم ليسوا بمحادّين لنا بالمعنى الذي ذكرناه ، ولذا كان لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، وجاز التزوج منهم ، ومشاركتهم ، والاتجار معهم ، وعيادة مرضاهم ، فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهوديّا ، وعرض عليه الإسلام فأسلم – كما رواه البخاري . xxv
وعلى الإمام حفظهم والمنع من أذاهم ، واستنقاذ أسراهم ، لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام ، وتأبد عهدهم ، فلزمه ذلك كما لزم المسلمين – كما في ( الإقناع ) و( شرحه ) .
وقال ابن القيّم في ( إغاثة اللهفان ) في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم بكثير من الرخص المشروعة : ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب من دعاه فيأكل طعامه ، وأضافه يهودي بخبز شعير وإهالة سنخة ، وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب ، وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مرّ بهم من المسلمين وقال : أطعموهم مما تأكلون . وقد أحل الله عز وجل ذاك في كتابه ، ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاما فدعوه فقال : أين هو ؟ قالوا : في الكنيسة ، فكره دخولها ، وقال لعليّ رضي الله عنه : اذهب بالناس . فذهب علي بالمسلمين ، فدخلوا وأكلوا ، وجعل عليّ رضي الله عنه ينظر إلى الصورة وقال : ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل . انتهى .
والأصل في هذا قوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 ) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . ( الممتحنة : 8-9 ) .
قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في ( إيثار الحق ) : عن الإمام المهديّ محمد بن المطهّر أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي أن تحب الكافر لكفره ، والعاصي لمعصيته ، لا لسبب آخر ، من جلب نفع أو دفع ضرر ، أو خصلة خير فيه . وسيأتي في أول سورة الممتحنة زيادة على هذا إن شاء الله تعالى ، وبالله التوفيقxxvi .
i في ظلال القرآن ، بقلم سيد قطب 28/8 .
ii بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1/456
iv رواه ابن جرير ، قال ابن كثير : وإلى ما ذكرناه ذهب ابن عباس والأكثرون . وانظر مختصر تفسير ابن كثير تحقيق محمد علي الصابوني المجلد الثالث ص 459 .
vii انظر تفسير المراغي والآلوسي ، والتفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية .
رواه أبو داود في الأقضية ( 3592 ) والترمذي في الأحكام ( 1372 ) والدارمي في المقدمة ( 168 ) وأحمد في مسنده ( 21502-21556-21595 ) عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال : " كييف تقضي إذا عرض لك قضاء " ؟ قال : " أقضي بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : " فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله " ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، فضرب رسول الله صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " . قال أبو عيسى : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل . وقال الزيلعي في نصب الراية : وأخرجاه أيضا عن أناس من أصحاب معاذ أن رسول الله . . . مرسلا ، قال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده بمتصل ، انتهى . وقال البخاري في " تاريخه الكبير " : الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي عن أصحاب معاذ عن معاذ ، روى عنه أبو عون ، ولا يصح ، ولا يعرف إلا بهذا ، مرسل ، انتهى . وفيه كتاب . ورواه النسائي في آداب القضاء ( 5399 ) والدارمي في المقدمة ( 167 ) عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولم يقض به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ، ولا أرى لتأخر إلا خيرا لك ، والسلام عليكم .
ix مهلا يا عائشة إن لله يحب الرفق :
رواه البخاري في الأدب ( 6024 ) ومسلم في السلام ( 2165 ) من حديث عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم ، قالت عائشة : ففهمتها فقلت : وعليكم السام واللعنة ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مهلا يا عائشة ، إن الله يحب الرفق في الأمر كله " فقلت : يا رسول الله ، أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد قلت : وعليكم " .
x نقلا عن تفسير القرطبي ، وصفوة التفاسير للصابوني 3/339
xiإذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان :
رواه البخاري في الاستئذان ( 6290 ) ومسلم في السلام ( 2184 ) من حديث عبد الله رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه "
xiiانظر مختصر تفسير ابن كثير ، تحقيق الصابوني 3/463
xiii والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه :
روه مسلم في الذكر ( 2699 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " .
xiv ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو :
رواه مسلم في البر والصلة ( 2588 ) ، والترمذي في البر والصلة ( 2029 ) وأحمد ( 7165-8782 ) والدارمي في الزكاة ( 1676 ) من حديث أبي هريرة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
xv لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه :
رواه البخاري في الاستئذان ( 6269 ) ومسلم في السلام ( 2177 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه " .
xvi من أحب أن يمثل له الرجال قياما :
رواه أبو داود في الأدب ( 5229 ) والترمذي في الأدب ( 2755 ) من حديث أبي مجلز قال : خرج معاوية على بن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير ، فقال معاوية لابن عامر : اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار "
وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن .
رواه البخاري في الجهاد ( 3043 ) ومسلم في الجهاد ( 1768 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد – هو ابن معاذ – بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قريبا منه فجاء على حمار فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا إلى سيدكم " . فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " إن هؤلاء نزلوا على حكمك " ، قال : فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تسبي الذرية ، قال : " لقد حكمت فيهم بحكم الملك " .
xviii ليليني منكم أولو الأحلام والنهى :
رواه الترمذي في الصلاة ( 228 ) وأحمد في مسنده ( 4360 ) من حديث عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذي يلونهم ، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، وإياكم وهيشات الأسواق " .
وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .
والنسائي في الإمامة ( 807 ) وابن ماجة في إقامة الصلاة ( 976 ) من حديث أبي مسعود قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " قال أبو مسعود : فأنتم اليوم أشد اختلافا .
تقدم تخريجه ، انظر هامش ( 13 ) .
xx إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما :
رواه مسلم في صلاة المسافرين ( 817 ) وابن ماجة في المقدمة ( 233 ) من حديث عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى ، قال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا ، قال : فاستخلفت عليهم مولى ، قال : إنه قارئ لكتاب الله عز وجل وإنه عالم بالفرائض ، قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين " .
xxi مختصر تفسير ابن كثير ، المجلد الثالث ص 465 .
رواه الترمذي في تفسير القرآن ( 3300 ) من حديث علي بن أبي طالب قال : لما نزلت : { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ترى ، دينارا ؟ " قلت : لا يطيقونه ، قال : " فنصف دينار " ؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : " فكم " قلت : شعيرة ، قال : " إنك لزهيد " ، قال : فنزلت : { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات . . . } الآية . قال : فبي خفف الله عن هذه الأمة .
xxiii التفسير المنير ، دار الفكر المعاصر ، بيروت لبنان ، الجزء 28 ص 48 .
xxv أخرجه في : 75- كتاب المرضى ، 11 – باب عيادة المشرك ، حديث رقم 714 ، عن أنس .
xxvi تفسير القاسمي ، المجلد السابع ، دار إحياء التراث العربي . بيروت لبنان ص 59-60 .
يوادّون : يتقربون إليهم بالمودة والمحبة .
بروح منه : بنور وعزم من عنده .
ثم بين تعالى أن الإيمانَ الحقّ لا يجتمع مع موالاة أعداء الله ، مهما قرُبَ بهم النسبُ ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو من العشيرة القريبة . وهذا معنى قوله تعالى :
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله . . . . } ، لا تجدُ قوما يجمعون بين الإيمان باللهِ ورسولهِ واليوم الآخر ، ومَودَّةِ أعدائه مهما كانت قرابتُهم .
{ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، فهؤلاء الذين يُخلِصون لله ولا يوالون الجاحدين الذين يحادُّون الله ثَبَّتَ اللهُ في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم بقوّة منه ، ويُدخِلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها لا ينقطع نعيمها ، قد أحبَّهم اللهُ وأحبّوه ورضيَ عنهم ورضُوا عنه .
{ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } ، لأنهم أهلُ السعادة والفلاح والنصر في الدنيا والآخِرة ونِعْمَة الخاتمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وقوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر} يعني يصدقون بالله أنه واحد لا شريك له، ويصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {يوادون من حاد الله ورسوله} يعني يناصحون من عادى الله ورسوله... {ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك} الذين لم يفعلوا ذلك {كتب} يقول جعل {في قلوبهم الإيمان} يعني التصديق... {وأيدهم بروح منه} يقول قولهم برحمة من الله عجلت لهم في الدنيا، {ويدخلهم} في الآخرة {جنات} يعني بساتين {تجري من تحتها الأنهار} مطردة، {خالدين فيها} يعني مقيمن في الجنة لا يموتون، {رضي الله عنهم} بأعمالهم الحسنة {ورضوا عنه} يعني عن الله بالثواب والفوز، {أولئك} الذين ذكر {حزب الله} يعني شيعة الله {ألا إن حزب الله} يعني ألا أن شيعة الله {هم المفلحون} يعني الفائزين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {لا تَجِدُ قَوْما يُؤمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ}: لا تجد يا محمد قوما يصدّقون الله، ويقرّون باليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله وشاقّهما وخالف أمر الله ونهيه {وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ} يقول: ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم {أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ} وإنما أخبر الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم} ليسوا من أهل الإيمان بالله ولا باليوم الآخر، فلذلك تولّوُا الذين تولّوْهم من اليهود...
وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} يقول جلّ ثناؤه: هؤلاء الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، كتب الله في قلوبهم الإيمان. وإنما عُنِي بذلك: قضى لقلوبهم الإيمان، ف"في" بمعنى اللام، وأخبر تعالى ذكره أنه كتب في قلوبهم الإيمان لهم، وذلك لمّا كان الإيمان بالقلوب، وكان معلوما بالخبر عن القلوب أن المراد به أهلها، اجتزى بذكرها مِنْ ذكر أهلها.
وقوله: {وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} يقول: وقوّاهم بِبرْهان منه ونور وهدى {وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ} يقول: ويدخلهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار {خالِدِينَ فِيها} يقول: ماكثين فيها أبدا {رِضِيَ اللّهُ عَنْهُمُ} بطاعتهم إياه في الدنيا {وَرَضُوا عَنْهُ} في الآخرة بإدخاله إياهم الجنةَ. {أُولَئِكَ حِزْبُ اللّهِ} يقول: أولئك الذين هذه صفتهم جند الله وأولياؤه. {ألا إنّ حِزْبَ اللّهِ} يقول: ألا إن جند الله وأولياءه {هُمُ المُفْلِحون} يقول: هم الباقون المُنْجَحون بإدراكهم ما طلبوا، والتمسوا ببيعتهم في الدنيا، وطاعتهم ربهم.
المحادَّةُ أن يكون كل واحد منهما في حَدٍّ وحَيِّزٍ غير حدّ صاحبه وحيّزه، فظاهره يقتضي أن يكون المراد أهْلَ الحرب لأنهم في حدّ غير حدّنا...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمناً لا يوالي من كفر، وإن كان من عشيرته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً} من باب التخييل، خيل أن من الممتنع المحال: أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله: {وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءَهُمْ} وبقوله: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} وبمقابلة قوله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان} [المجادلة: 99] بقوله: {أولئك حزب الله} فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، بل هو الإخلاص بعينه {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} بلطف من عنده حييت به قلوبهم. ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله تعالى حق الإيمان ويلتزم شعبه على الكمال يواد كافراً أو منافقاً. ومعنى يواد: يكون بينهما من اللطف بحيث يود كل واحد منهما صاحبه...
{كتب في قلوبهم الإيمان} معناه: أثبته...
وقوله تعالى: {بروح منه} معناه: بهدى ولطف ونور وتوفيق إلهي ينقدح من القرآن، وكلام النبي عليه السلام. والحزب الطريق الذي يجمعه مذهب واحد. والمفلح: الفائز ببغيته.
المعنى أنه لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله، وذلك لأن من أحب أحدا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه...
فإن قيل: أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاشرتهم، فما هذه المودة المحرمة المحظورة؟
قلنا: المودة المحظورة هي إرادة منافسه دينا ودنيا مع كونه كافرا، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه.
ثم إنه تعالى بالغ في المنع من هذه المودة من وجوه؛
(أولها) ما ذكر أن هذه المودة مع الإيمان لا يجتمعان.
(وثانيها) قوله: {ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} والمراد أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع الميل، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مغلوبا مطروحا بسبب الدين.
(وثالثها) أنه تعالى عدد نعمه على المؤمنين، فبدأ بقوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعنى أن من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله.
(وثانيها) المراد شرح صدورهم للإيمان بالألطاف والتوفيق.
والنعمة الثانية: قوله: {وأيدهم بروح منه}...
{منه} عائد إلى الإيمان والمعنى أيدهم بروح من الإيمان يدل عليه...
{ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها} وهو إشارة إلى نعمة الجنة.
(النعمة الرابعة) قوله تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وهي نعمة الرضوان، وهي أعظم النعم وأجل المراتب، ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} وهو في مقابلة قوله فيهم: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
يفهم من قوله تعالى: {حاد الله ورسوله}...أن المراد بهم المحاربون لله ولرسوله الصادون عن سبيله المجاهرون بالعداوة والبغضاء، وهم الذين أخبر عنهم قبل بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول فتشمل الآية المشركين وأهل الكتاب المحاربين المحادين لنا، أي الذين على حد منا، ومجانبة لشؤوننا، تحقيقا لمخالفتنا، وترصدا للإيقاع بنا وأما أهل الذمة الذين بين أظهرنا ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا واستكان لأحكامنا وقضائنا فأولئك لا تشملهم الآية لأنهم ليسوا بمحادين لنا بالمعنى الذي ذكرناه ولذا كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا وجاز التزويج منهم ومشاركتهم والاتجار معهم وعيادة مرضاهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله).. فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين: ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله... (ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)...
. فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان...
(أولئك كتب في قلوبهم الإيمان).. فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن...
وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق... (ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).. جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة... (رضي الله عنهم ورضوا عنه)...
. وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة، ترسم حالة المؤمنين هؤلاء، في مقام عال رفيع. وفي جو راض وديع.. ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم...
(أولئك حزب الله).. فهم جماعته. المتجمعة تحت لوائه...
. (ألا إن حزب الله هم المفلحون). ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وافتتاح الكلام ب {لا تجد قوماً} يثير تشويقاً إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم. والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإِيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبساً بها...
والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتباراً بأن شأن الودّ أن يجلب وُدًّا من المودود للوادّ. وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقاً لأن الوادَّ الصادق يقابله المودود بمثله. ويعرف ذلك بشواهد المعاملة...
] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره. وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد...
. {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون}. الإِشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم {يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يمثل خطّاً للفكر والعاطفة والحياة، كما تمثل المحادة لله ورسوله خطّاً آخر في هذه المواقع...فإنّ كلّ واحدٍ منهما ينفي الآخر {وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فلا قيمة لصلة القرابة، مهما كانت قريبة، أمام مسألة العقيدة، فقد تفرض عليه العقيدة في مواقف التحدي أن يقتل الإنسان أباه أو ولده أو أخاه أو أفراد عشيرته إذا وقفوا في الموقف المعادي للإسلام وللمسلمين...
لتأكيد صدق الانتماء إلى حزب الله، الانتماء الى الإسلام بالمعنى البسيط الرسمي الذي يدخل به الإنسان إلى الإسلام، ذلك أن الفارق فيما بينهما، تماماً كما هو الفارق بين الإسلام والإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخرين يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم}. نعم، لا يجتمع حبّان متضادّان في قلب واحد، والذين يدّعون إمكانية الجمع بين الاثنين، فإنّهم إمّا ضعفاء الإيمان أو منافقون، ولذلك نلاحظ في الغزوات الإسلامية أنّ جمعاً من أقرباء المسلمين كانوا في صفّ المخالفين والأعداء، ومع ذلك قاتلهم المسلمون حتّى قتلوا قسماً منهم. إنّ حبّ الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة شيء ممدوح، ودليل على عمق العواطف الإنسانية، إلاّ أنّ هذه المحبّة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله فإنّها ستفقد خاصيّتها...
الأولى- قوله تعالى :{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون }أي يحبون ويوالون { من حاد الله ورسوله } تقدم{[14801]} ، { ولو كانوا آباءهم } قال السدي : نزلت في عبدالله بن{[14802]} عبدالله بن أبي ، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء ، فقال له : بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي ، لعل الله يطهر بها قلبه ؟ فأفضل له فأتاه بها ، فقال له عبدالله : ما هذا ؟ فقال : هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها . فقال له أبوه : فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها ، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ! أما أذنت لي في قتل أبي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل ترفق به وتحسن إليه ) .
وقال ابن جريج : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر ابنه صَكَّةً فسقط منها على وجهه ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : ( أو فعلته ، لا تعد إليه ) فقال : والذى بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته . وقال ابن مسعود : نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد وقيل : يوم بدر . وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة وأبوعبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله حين قتل أباه : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر } الآية . قال الواقدي : كذلك يقول أهل الشام . ولقد سألت رجالا من بني الحرث بن فهر فقالوا : توفي أبوه من قبل الإسلام .
{ أو أبناءهم } يعني أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر ) . { أو إخوانهم } يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر ، { أو عشيرتهم } يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعلي وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر . وقيل : إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، على ما يأتي بيانه أول سورة " الممتحنة " إن شاء الله تعالى . بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب .
الثانية- استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم . قال أشهب عن مالك : لا تجالس القدرية وعادهم في الله ، لقوله تعالى :{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } .
قلت : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان . وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان ، وعن عبد العزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت ) { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر - إلى قوله - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أي خلق في قلوبهم التصديق ، يعني من لم يوال من حاد الله . وقيل : كتب أثبت ، قاله الربيع بن أنس . وقيل : جعل ، كقوله تعالى : " فاكتبنا مع الشاهدين{[14803]} " [ آل عمران : 53 ] أي اجعلنا . وقوله : { فسأكتبها للذين يتقون{[14804]} } [ الأعراف : 156 ] وقيل :{ كتب } أي جمع ، ومنه الكتيبة ، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض . وقراءة العامة بفتح الكاف من { كتب }ونصب النون من { الإيمان } بمعنى كتب الله وهو الأجود ، لقوله تعالى :{ وأيدهم بروح منه } ، وقرأ أبو العالية وزر بن حبيش والمفضل عن عاصم " كتب " على ما لم يسم فاعله " الإيمان " برفع النون . وقرأ زر بن حبيش { وعشيراتهم } بألف وكسر التاء على الجمع ، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم . وقيل : { كتب في قلوبهم } أي على قلوبهم ، كما في قلوبهم { في جذوع النخل{[14805]} } [ طه : 71 ] وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان . { وأيدهم بروح منه } قواهم ونصرهم بروح منه ، قال الحسن : وبنصر منه . وقال الربيع بن أنس : بالقرآن وحججه . وقال ابن جريج : بنور وإيمان وبرهان وهدى . وقيل : برحمة من الله . وقال بعضهم : أيدهم بجبريل عليه السلام . { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم } أي قبل أعمالهم { ورضوا عنه } فرحوا بما أعطاهم ، { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه ، قال داود عليه السلام : إلهي ! مَن حزبك وحول عرشك ؟ فأوحى الله إليه : ( يا داود الغاضة أبصارهم ، النقية قلوبهم ، السليمة أكفهم ، أولئك حزبي وحول عرشي ) .
ولما ظهر بهذا كالشمس أن من والاه{[63517]} سبحانه كان فائزاً ، ومن عاداه كان خاسراً ، كانت نتيجته قطعاً التحذير من موالاة أعداء الله في سياق النفي المفيد للمبالغة في النهي عنه والزجر عن قربانه فقال{[63518]} : { لا تجد } أي بعد هذا البيان { قوماً } أي ناساً لهم قوة على {[63519]}ما يريدون محاولته{[63520]} { يؤمنون } أي يجددون الإيمان ويديمونه { بالله } أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى { واليوم الآخر } الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما{[63521]} عمل ، الذي هو محط الحكمة ، { يوادون } أي يحصل منهم ود لا{[63522]} ظاهراً و{[63523]}لا باطناً - بما أشار إليه الإدغام وأقله الموافقة في المظاهرة{[63524]} ، { من حاد الله } أي عادى{[63525]} بالمناصبة في الحدود الملك{[63526]} الأعلى لذلك فالمحادة{[63527]} لا تخفى وإن كانت باطنة يستتر بها صاحبها لأن الظاهر عنوان الباطن ، والأفعال دليل [ على-{[63528]} ] الأقوال ، وهذا حامل على زيادة{[63529]} النفرة منهم ، { ورسوله } فإن من حاده فقد حاد الذي أرسله ، بل لا تجدهم إلا يحادونهم ، لا أنهم يوادونهم ، وزاد ذلك تأكيداً بقوله :{ ولو كانوا آباءهم } الذين أوجب الله على الأبناء{[63530]} طاعتهم بالمعروف ، وذلك كما فعل أبو عبيدة عامر{[63531]} بن الجراح رضي الله عنه ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، { أو آبناءهم } الذي جبلوا على محبتهم ورحمتهم كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة ، وقال : دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك بمنزلة سمعي وبصري " {[63532]} ، { أو إخوانهم } الذين{[63533]} هم أعضادهم{[63534]} كما فعل مصعب بن عمير رضي الله عنه ، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخرق سعد{[63535]} بن أبي وقاص رضي الله عنه الصفوف يومئذ على أخيه عتبة بن أبي وقاص غير مرة ليقتله فراع عنه روعان{[63536]} الثعلب ، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريد أن تقتل نفسك وقتل محمد{[63537]} بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير ، { أو عشيرتهم } الذين هم أنصارهم وأمدادهم{[63538]} كما فعل عمر رضي الله عنه ، قتل خاله العاصي بن هشام بن المغيرة{[63539]} يوم بدر وعلي{[63540]} وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني{[63541]} ربيعة والوليد بن عتبة ، وعن الثوري{[63542]} {[63543]}أن السلف{[63544]} كانوا يرون أن الآية نزلت فيمن يصحب السلطان - انتهى . ومدار ذلك على أن الإنسان يقطع رجاءه من غير{[63545]} الله ، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه .
ولما كان لا يحمل على البراءة ممن{[63546]} هذا شأنه إلا صريح الإيمان ، أنتج قوله : { أولئك } أي الأعظمون شأناً الأعلون همماً ، { كتب } أي وصل وأثبت وصلاً هو في لحمته كالخرز في الأديم ، وكالطراز{[63547]} في الثوب الرقيم ، فلا انفكاك له { في قلوبهم الإيمان } فجعلها{[63548]} أوعية له فأثمر ذلك نور الباطن واستقامة الأعمال في الظاهر ، { وأيدهم } أي قواهم وشددهم وأعانهم وشجعهم وعظمهم وشرفهم ، { بروح } أي نور شريف جداً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من كنوز العلم والعمل{[63549]} فهو لقلوبهم كالروح للأبدان ، فلا يفعلون شيئاً من أحوال أهل{[63550]} الجاهلية كالمظاهرة ، وزاد هذا التأييد شرفاً بقوله : { منه } أي أحياهم به فلا انفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً{[63551]} وباطناً ، فقهروا بالدلائل والحجج ، وظهروا بالسيف المفني للمهج ، وعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسرج ، فلا تجد شيئاً أدخل {[63552]}في الإخلاص{[63553]} من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو عين الإخلاص ، ومن جنح إلى منحرف عن دينه أو داهن مبتدعاً في عقده نزع الله نور التوحيد من قلبه .
ولما أخبر بما آتاهم في الدنيا وهو غير مفارق لهم في الآخرة ، أخبر بما يؤتيهم{[63554]} في الآخرة فقال :{ ويدخلهم جنات } أي بساتين يستر داخلها من كثرة أشجارها ، وأخبر عن ريها بقوله :{ تجري } ولما كانت المياه لو عمت الأرض لم يكن بها مستقر ، أثبت الجار فقال{[63555]} :{ من تحتها الأنهار } أي فهي لذلك كثيرة الرياض والأشجار والساحات والديار . ولما كان ذلك لا يلذ إلا بالدوام قال :{ خالدين فيها } .
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضا مالكها قال :{ رضي الله } أي الملك{[63556]} الأعظم الذي له الأمر كله فلا التفات إلى غيره { عنهم } ولما كان ذلك لا يكمل سروره إلا برضاهم ليتم حسن المجاورة قال : { ورضوا عنه } أي لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون . ولما أخبر عنهم بما يسر كل سامع فيشتاق{[63557]} إلى مصاحبتهم ومعاشرتهم ومرافقتهم ومقاربتهم{[63558]} ومدحهم وعرفهم بقوله : { أولئك } أي الذين هم في الدرجة العليا من العظمة لكونهم قصروا ودهم على الله علماً منهم بأنه ليس النفع والضر{[63559]} إلا بيده { حزب الله } أي جند الملك الأعلى{[63560]} الذي أحاط{[63561]} بجميع صفات الكمال وأولياءه ، فإنهم{[63562]} هم يغضبون له ولا يخافون فيه لومة لائم . ولما تبين مما{[63563]} أعد لهم وأعد لأضدادهم أنهم المختصون بكل خير ، قال على طريق الإنتاج مما{[63564]} مضى مؤكداً لما لأضدادهم من الأنكاد : { ألا إن حزب الله } أي جند الملك الأعلى وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم { هم } أي خاصة {[63565]}لا غيرهم{[63566]} { المفلحون * } أي الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين ، وقد علم من الرضى من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الانفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد ، خصهم بذلك لأن له العزة والقوة والعلم والحكمة ، فلذلك علم أمر المجادلة ورحم شكواها لأنها من حزبه وسمع لها ، ومن سمع له فهو مرضي عنه ، وحرم الظهار بسبب شكواها إكراماً لها بحكمته لأنه منابذ للحكمة {[63567]}لأنه تشبيه{[63568]} خارج عن قاعدة التشبيهات{[63569]} ، وفيه امتهان للأم التي لها في دينه غاية الإكرام بالتسوية بالزوجة التي هي محل الافتراش ، وختم آيها{[63570]} بأن من تعدى حدوده فعاود{[63571]} أحوال الجاهلية فهو مجادله سبحانه فهو من حزب الشيطان ، فقد عاد {[63572]}آخرها إلى أولها{[63573]} بأدل دليل على أحسن سبيل ، لأن هذا القرآن العظيم أشرف حديث وأقوم قيل وهذا مقصود التي بعدها ، ولا شك أنه موجب للتنزيه مبعد عن التشريك والتشبيه ، فسبحان من أنزله آية دائمة البيان ، موجبة للإيمان ، قامعة للطغيان ، على مدى الدهور وتطاول الأزمان{[63574]} .
قوله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله } يعني لا تجد قوما مؤمنين بالله مقرين بيوم القيامة يوادون الكافرين الذين يشاقون الله ورسوله ويصدون عن دين الحق ولو كان المحادون المشاقون آباء المؤمنين أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . ما ينبغي للمؤمن الصادق الذي يخشى الله أن يوالي الكافرين والظالمين الذين يعادون الله ورسوله ويسعون في الأرض بالباطل فيصدون الناس عن منهج الله ويفتنون المسلمين عن دينهم ليضلوهم ضلال . ما ينبغي لمسلم صادق العقيدة والإيمان أن يتّبع خصوم الإسلام على اختلاف مللهم وأديانهم فيمالئهم ضد المسلمين ولو كان هؤلاء المشاقون أقرب الأقربين للمسلم . إنما يوالي المسلم إخوانه في الدين والعقيدة . عقيدة الحق والتوحيد والفضيلة ، عقيدة الإسلام .
ولئن كان هذا التنديد الشديد بالذين يوالون أعداء الله وهم أولو قرابة في النسب منهم ، فكيف بمن يوالي أعداء الله الكافرين وهم عنه غرباء في النسب والأصل والجنس فضلا عن غرابة الدين ، كمن يوالي الصليبيين من النصارى أو الصهيونيين من اليهود أو الوثنيين من المشركين وغيرهم من الملحدين ، فيسارونهم مسارة ويوادونهم موادة ويمالئونهم على المسلمين ، كأولئك الجواسيس الخائنين الذين يحملون للكافرين في الظلام أخبار المسلمين وأسرارهم ، من أجل أجر ممتهن نجس ، دراهم معدودة ، أولئك نفر ممتهن مستقذر من سقط الأوباش ، لا جرم أنهم قد خانوا الله ورسوله والمسلمين . فهم في الأذلين الأخسرين في الدنيا والآخرة .
قوله : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } اسم الإشارة عائد إلى المؤمنين الذين يتصفون بأنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الأقربين إليهم كالآباء والأبناء والإخوان والعشيرة ، فأولئك ممن أثبت الله في قلوبهم الإيمان وجعله مستقرا في صدورهم ، فهم مؤمنون صادقون قد أخلصوا دينهم لله ، { وأيّدهم بروح منه } أي قواهم ونصرهم بفيض رحمته ونوره ، { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } وهذا جزاؤهم في الآخرة ، أن لهم جنات النعيم بظلها الناعم الوارف الظليل ، ومائها العذب السائح الجاري ، مقيمين فيها آبدين ماكثين لا يبرحون ، { رضي الله عنهم ورضوا عنه } أي تقبّل الله منهم أعمالهم وسعدوا أكمل السعادة بما أعطوه في الآخرة من النعيم المقيم{[4493]} .
قوله : { أولئك حزب الله } هؤلاء المؤمنون الصادقون الذين لا يوادون غير المؤمنين ، هم جند الله وأولياؤه وأنصاره ، قوله : { ألا إن حزب الله هم المفلحون } هؤلاء المؤمنون الصادقون هم الفائزون السعداء المنصورون في الدنيا والآخرة . جعلنا الله منهم .