ولقد كنت فقيرا فأغنى الله نفسك بالقناعة ، كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك [ خديجة رضي الله عنها ] عن أن تحس الفقر ، أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء !
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد ، منحرفة السلوك والأوضاع ، فلم تطمئن روحك إليها . ولكنك لم تكن تجد لك طريقا واضحا مطمئنا . لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا وتاهوا . . ثم هداك الله بالأمر الذي أوحي به إليك ، وبالمنهج الذي يصلك به .
والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى ، التي لا تعدلها منة ؛ وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق ؛ ومن التعب الذي لا يعدله تعب ، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعانيه في هذه الفترة ، من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب . فجاءت هذه تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه !
ضالا : غافلا عن أحكام الشرائع ، أو متحيرا فيما تراه من أحوال قومك .
فهدى : فهداك إلى أسباب الهداية بما أوحى إليك .
ووجدك غافلا عن الشرائع ، فأنزل عليك الوحي والتشريع .
قال تعالى : وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون* بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم . . . ( العنكبوت : 48 ، 49 ) .
وقيل : المعنى : وجدك في حيرة مما عليك قومك ، فاليهودية قد عبث بها الرؤساء ورجال الدين ، والمسيحية كذلك ، عبث بها القساوسة والشمامسة والبطارقة ، وكان العرب يدّعون أنهم على دين إبراهيم ، ومع ذلك كانوا يئدون البنات ، ويشربون الخمر ، ويرتكبون الزنا ، ويعبدون الأوثان ، ويبطش القوي بالضعيف ، ويستمسك الأغنياء والأقوياء بمالهم وجاههم ، فلا ينفقون منه على الفقراء والمحتاجين ، وكان الله قد منح محمدا صلى الله عليه وسلم فطرة سليمة ، فلم يسجد لصنم ، ولم يشرب الخمر ، ولم يرتكب الفواحش ، وكان يخلو بنفسه في غار حراء ، عابدا لله متأملا في هذا الكون ، متحيرا مما عليه الناس ، حتى اجتباه الله وأنزل عليه الوحي ، وهداه إلى طريق الرسالة وإحياء دين الإسلام .
وجمهور العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم قد فطر على الإيمان بالله ، وما كان صلى الله عليه وسلم على دين قومه لحظة واحدة ، بدليل قوله تعالى : ما ضل صاحبكم وما غوى . ( النجم : 2 ) .
وقد كان هناك متحنثون من العرب ، زهدوا فيما عليه القوم ، وانصرفوا إلى التحنث وتوحيد الله ، أي ترك الحنث والإثم ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في السموّ الروحي ، وكان قس بن ساعدة الإيادي يخطب في الناس ، ويقول : البعرة تدل على البعير ، وخط السير يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وبحار ذات أمواج ، وأرض ذات فجاج ، الا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير ، يقسم قسّ بالله قسما لا إثم فيه ، إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استمع إليه ، ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله : ( أيكم يحفظ شعره ) ؟ فقال أبو بكر الصديق : أنا أحفظ شعره ، وهو :
في الذاهبين الأولين *** من القرون بصائر
لم رأيت موارد للموت *** ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها *** تمضي الأكابر والأصاغر
أيقنت أنّي لا محالة *** حيث صار القوم صائر
وقد ذكر الأستاذ الدكتور حسين مؤنس في كتابه ( دراسات في السيرة النبوية ) أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يدخل في مراحل النبوة قد اتجه بقله ونفسه إلى البحث عن الحق ، أنفة من الأوثان ، وبصيرة منه بأنها عبث لا طائل وراءها ، أي أنه سار في طريق من عرفنا من الحنيفية ، دون أن يكون في جملتهم ، إنما هو كان يبحث وحده عن ملة إبراهيم عليه السلام ، وهذا بدوره مرتبط أشد الارتباط بما كان محمد صلى الله عليه وسلم عليه طوال ما مضى من حياته كلها ، فقد وجهه الله سبحانه في طريق الفضائل والكمالات ، لما سبق في تقديره سبحانه من أنه مصطفيه للرسالة الكبرى ، فكان مثالا في الفضل والخير والعصمة من الزلل ، حتى تستقيم معه الرسالة .
وقد كانت في بلاد العرب يهودية لكنها كانت سلبية لا تدعو الناس إليها ، وكانت تؤمن بالله ، وكانت في بلاد العرب مسيحية لكنها كانت محدودة جدا في بعض الصوامع أو الأديرة ، وكانت تؤمن بالله .
وفكرة الله خالق الكون ظلت في أذهن العرب ، لكنهم أشركوا معه معبوداتهم الوثنية ، وقالوا إنهم يتقربون بعبادتها إلى الله زلفى .
قال تعالى على لسانهم : ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى . . . ( الزمر : 3 ) .
وكان من الحنيفيين ورقة بن نوفل ، وهو عم خديجة بنت خويلدi . اه .
كان صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمر نفسه ، ومن أمر قومه ، فهداه الله برسالته الخاتمة ، وجعله هاديا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله وسراجا منيرا .
وقيل : إن معنى الآية : أن النبي ضلّ عن جده في شعاب مكة ، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه ، فرده إلى جده وهو متعلق بأستار الكعبة ، يضرع إلى الله تعالى ويقول :
قوله تعالى : { ووجدك ضالا فهدى }
أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة ، فهداك : أي أرشدك . والضلال هنا بمعنى الغفلة ، كقوله جل ثناؤه : " لا يضل ربي ولا ينسى " {[16147]} [ طه : 52 ] أي لا يغفل . وقال في حق نبيه : " وإن كنت من قبله لمن الغافلين{[16148]} " [ يوسف : 3 ] . وقال قوم : " ضالا " لم تكن تدري القرآن والشرائع ، فهداك اللّه إلى القرآن ، وشرائع الإسلام ، عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما . وهو معنى قوله تعالى : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " ، على ما بينا في سورة " الشورى " {[16149]} . وقال قوم : " ووجدك ضالا " أي في قوم ضلال ، فهداهم اللّه بك . هذا قول الكلبي والفراء . وعن السدي نحوه ، أي ووجد قومك في ضلال ، فهداك إلى إرشادهم . وقيل : " ووجدك ضالا " عن الهجرة ، فهداك إليها . وقيل : " ضالا " أي ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح – فأذكرك ، كما قال تعالى : " أن تضل إحداهما{[16150]} " [ البقرة : 282 ] . وقيل : ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها . بيانه : " قد نرى تقلب وجهك في السماء{[16151]} . . . " [ البقرة : 144 ] الآية . ويكون الضلال بمعنى الطلب ؛ لأن الضال طالب . وقيل : ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك ، فهداك إليه ، فيكون الضلال بمعنى التحير ؛ لأن الضال متحير . وقيل : ووجدك ضائعا في قومك ، فهداك إليه ، ويكون الضلال بمعنى الضياع . وقيل : ووجدك محبا للهداية ، فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى المحبة . ومنه قوله تعالى : " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم{[16152]} " [ يوسف : 95 ] أي في محبتك . قال الشاعر :
هذا الضلالُ أشاب مني المفرِقا *** والعَارِضَيْنِ ولم أكن متحققا{[16153]}
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي *** بعد الضلال فحبلها قد أخلَقَا
وقيل : " ضالا " في شعاب مكة ، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب . قال ابن عباس : ضل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو صغير في شعاب مكة ، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه ، فرده إلى جده عبدالمطلب ، فمن اللّه عليه بذلك ، حين رده إلى جده على يدي عدوه . وقال سعيد بن جبير : خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر ، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء ، فعدل بها عن الطريق ، فجاء جبريل عليه السلام ، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند ، ورده إلى القافلة ، فمن اللّه عليه بذلك . وقال كعب : إن حليمة لما قضت حق الرضاع ، جاءت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لترده على عبد المطلب ، فسمعت عند باب مكة : هنيئا لك يا بطحاء مكة ، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال . قالت : فوضعته لأصلح ثيابي ، فسمعت هدة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معشر الناس ، أين الصبي ؟ فقال : لم نر شيئا ، فصحت : وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه ، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم ، فإن شاء أن يرده عليك فعل . ثم طاف الشيخ بالصنم ، وقبل رأسه وقال : يا رب ، لم تزل منتك على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل ، فرده إن شئت . فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنا أيها الشيخ ، فهلاكنا على يدي محمد . فألقى الشيخ عصاه ، وارتعد وقال : إن لابنك ربا لا يضيعه ، فاطلبيه على مهل . فانحشرت قريش إلى عبد المطلب ، وطلبوه في جميع مكة ، فلم يجدوه . فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا ، وتضرع إلى اللّه أن يرده ، وقال :
يا ربِّ رُدَّ ولدِي محمدا *** اردده ربي واتخذ عندي يدا
يا رب إن محمد لم يُوجدا *** فشمل قومي كلهم تبدَّدَا
فسمعوا مناديا ينادي من السماء : معاشر الناس لا تضجوا ، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه ، وإن محمدا بوادي تهامة ، عند شجرة السمر . فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل ، فإذا النبي صلى اللّه عليه وسلم قائم تحت شجرة ، يلعب بالأغصان وبالورق . وقيل : " ووجدك ضالا " ليلة المعراج ، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش . وقال أبو بكر الوراق وغيره : " ووجدك ضالا " : تحب أبا طالب ، فهداك إلى محبة ربك . وقال بسام بن عبد الله : " ووجدك ضالا " بنفسك لا تدري من أنت ، فعرفك بنفسك وحالك . وقال الجنيدي : ووجدك متحيرا في بيان الكتاب ، فعلمك البيان . بيانه : " لتبين للناس ما نزل إليهم " {[16154]} [ النحل : 44 ] الآية . " لتبين لهم الذي اختلفوا{[16155]} فيه " [ النحل : 64 ] . وقال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض ، لا شجر معها ، سموها ضالة ، فيهتدي بها إلى الطريق ، فقال اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : " ووجدك ضالا " أي لا أحد على دينك ، وأنت وحيد ليس معك أحد ، فهديت بك الخلق إلي .
قلت : هذه الأقوال كلها حسان ، ثم منها ما هو معنوي ، ومنها ما هو حسي . والقول الأخير أعجب إلي ؛ لأنه يجمع الأقوال المعنوية . وقال قوم : إنه كان على جملة ما كان القوم عليه ، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال ، فأما الشرك فلا يظن به ، بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة . وقال الكلبي والسدي : هذا على ظاهره ، أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك{[16156]} . وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة " الشورى " {[16157]} . وقيل : وجدك مغمورا بأهل الشرك ، فميزك عنهم . يقال : ضل الماء في اللبن ، ومنه " أئذا ضللنا في الأرض{[16158]} " [ السجدة : 10 ] أي لحقنا بالتراب عند الدفن ، حتى كأنا لا نتميز من جملته . وفي قراءة الحسن " ووجدك ضالٌ فهدى " أي وجدك الضال فاهتدى بك ، وهذه قراءة على التفسير . وقيل : " ووجدك ضالا " لا يهتدي إليك قومك ، ولا يعرفون قدرك ، فهدى المسلمين إليك ، حتى آمنوا بك .
{ ووجدك ضالا فهدى } فيه ستة أقوال :
أحدها : وجدك ضالا عن معرفة الشريعة فهداك إليها فالضلال عبارة عن التوقيف في أمر الدين حتى جاءه الحق من عند الله فهو كقوله : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] وهذا هو الأظهر وهو الذي اختاره ابن عطية وغيره ومعناه : أنه لم يكن يعرف تفصيل الشريعة وفروعها حتى بعثه الله ولكنه ما كفر بالله ولا أشرك به لأنه كان معصوما من ذلك قبل النبوة وبعدها .
والثاني : وجدك في قوم ضلال فكأنك واحد منهم وإن لم تكن تعبد ما يعبدون وهذا قريب من الأول .
والثالث : وجدك ضالا عن الهجرة فهداك إليها ، وهذا ضعيف ، لأن السورة نزلت قبل الهجرة . الرابع : وجدك حامل الذكر لا تعرف فهدى الناس إليك وهداهم بك وهذا بعيد عن المعنى المقصود .
الخامس : أنه من الضلال عن الطريق وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ضل في بعض شعب مكة وهو صغير فرده الله إلى جده ، وقيل : بل ضل من مرضعته حليمة فرده الله إليها ، وقيل : بل ضل في طريق الشام حين خرج إليها مع أبي طالب .
السادس : أنه بمعنى الضلال من المحبة أي : وجدك محبا لله فهداك إليه ، ومنه قول إخوة يوسف لأبيهم : { تالله إنك لفي ضلالك القديم } [ يوسف : 95 ] أي : محبتك ليوسف وبهذا كان يقول شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير .
ولما كان يلزم من اليتم في الغالب عدم العلم لليتيم لتهاون الكافل ، ومن عدم العلم الضلال ، قال مبيناً أن يتمه وإهماله من الحمل على دينهم كان نعمة عظيمة عليه لأنه لم يكن على دين قومه في حين من الأحيان أصلاً : { ووجدك } أي صادفك { ضالاً } أي لا تعلم الشرائع
{ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان }[ الشورى : 52 ] فأطلق اللازم وهو الضلال على الملزوم ، والمسبب على السبب ، وهو عدم العلم ، فكنت لأجل ذلك لا تقدم على فعل من الأفعال لأنك لا تعلم الحكم فيه إلا ما علمت بالعقل الصحيح والفطرة السليمة المستقيمة من التوحيد وبعض توابعه ، وهذا هو التقوى كما تقدم في الفاتحة ، ولم يرد به حقيقته وإنما أعراه من التعلق بشيء من الشرائع ونحوها بإعدام من يحمله على ذلك ليفرغه ذلك للتأمل بنفسه فيوصله بعقله السديد إلى الاعتقاد الحق في الأصول والوقوف في الفروع { فهدى * } أي فهداك هدى محيطاً بكل علم ، فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر ما لم تكن تعلم .