اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ} (7)

قوله : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } ، أي : غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك أي : أرشدك ، والضلال هنا بمعنى الغفلة ، لقوله تعالى : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] أي : لا يغفل ، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ] وقيل : معنى قوله : «ضالاًّ » لم تكن تدري القرآن ، والشرائع ، فهداك اللهُ إلى القرآن ، وشرائع الإسلام ، قاله الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما . قال تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] على ما تقدم في سورة الشورى .

وقال السديُّ والكلبي والفراء : وجدك ضالاًّ ، أي : في قوم ضلال ، فهداهم الله بك ، أو فهداك إلى إرشادهم{[60412]} .

وقيل : وجدك ضالاً عن الهجرة ، فهداك وقيل : «ضالاً » ، أي : ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهفِ ، وذي القرنين ، والروح ، فأذكرك ، لقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] .

وقيل : ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها ، لقوله تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } [ البقرة : 144 ] ، ويكون الضلال بمعنى الطلب ؛ لأن الضال طالب .

وقيل : وجدك ضائعاً في قومك ، فهداك إليهم ، ويكون الضلال بمعنى الضياع .

وقيل : ووجدك محباً للهداية ، فهداك إليها ؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى : { قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم } [ يوسف : 95 ] ، أي : في محبتك .

قال الشاعر : [ الكامل ]

5241- هَذا الضَّلالُ أشَابَ منِّي المفْرِقَا *** والعَارضَينِ ولَمْ أكُنْ مُتحقِّقَا

عَجَباً لعزَّة في اخْتِيَارِ قَطيعَتِي*** بَعْدَ الضَّلالِ فحِبْلُهَا قَدْ أخْلقَا{[60413]}

وقيل : ضالاً في شعاب «مكة » ، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب .

وقال كعب - رضي الله عنه - : إن حليمة لما قضت حق الرضاع ، جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتردهُ على عبد المطلب ، فسمعت عند باب «مكة » : هنيئاً لك يا بطحاء «مكة » ، اليوم يرد إليك الدين والبهاء والنور والجمالُ ، قالت : فوضعته لأصلح ثيابي{[60414]} ، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره ، فقلت : معشر الناس ، أين الصبي ؟ فقالوا : لم نر شيئاً فصحتُ : وامحمداه ، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه ، فقال : اذهبي إلى الصنم الأعظم ، فإن شاء أن يرده إليك فعل ، ثم طاف الشيخ بالصَّنم ، وقبل رأسه وقال : يا رب ، لم تزل منتك على قريش ، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضلّ ، فرده إن شئت ، فانكبّ هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ؛ وقالت : إليك عنا أيها الشيخ فهلاكُنَا على يدي محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد وقال : إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل ، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب ، وطلبوه في جميع «مكة » ، فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً ، وتضرع إلى الله أن يرده ؛ وقال : [ الرجز ]

5242- يا ربِّ ، رُدَّ ولَدِي مُحَمَّداً *** أرْدُدْهُ ربِّي واصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا{[60415]}

فسمعوا منادياً ينادي من السماء : معاشر الناس لا تضجوا ، فإن لمحمد ربَّا لا يضيعه ولا يخذله ، وإن محمداً بوادي «تهامة » ، عند شجرة السَّمُرِ ، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالإغصان وبالورق{[60416]} .

وفي رواية : فما زال عبد المطلب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه ، وهو يقول : ألا تدري ماذا جرى من ابنك ؟ .

فقال عبد المطلب : ولم ؟ قال : إني أنخت الناقة ، وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت النَّاقة .

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : رده إلى جده وبيد عدوه ، كما فعل بموسى - عليه الصلاة والسلام - حين حفظه عند فرعون{[60417]} .

وقال سعيد بن جبيرٍ : خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر ، فأخذ إبليس بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل بها على الطريق ، فجاء جبريل - عليه السلام - فنفخ لإبليس نفخة وقع منها إلى أرض «الهند » ، ورده إلى القافلة صلى الله عليه وسلم{[60418]} .

وقيل : ووجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل ، وأنت لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش .

وقال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض ، لا شجر معها ، سموها ضالة ، فيهتدى بها إلى الطريق ، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : «ووجَدَكَ ضالاًّ » أي لا أحد على دينك ، بل وأنت وحيد ليس معك أحد ، فهديت بك الخلق إلي .

وقيل : ووجدك مغموراً في أهل الشرك ، فميزك عنهم ، يقال : ضل الماءُ في اللبن ، ومنه { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } [ السجدة : 10 ] ، أي : لحقنا بالتراب عند الدَّفن ، حتى كأنا لا نتميز من جملته وقيل : ضالاًّ عن معرفة الله حين كنت طفلاً صغيراً ، كقوله تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [ النحل : 78 ] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة ، فالمراد من الضال الخالي من العلم لا الموصوف بالاعتقاد ، قيل : قد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد قومه فقوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك .

وقيل : إنه كان على ما كان القوم عليه لا يظهر لهم في الظاهر الحال ، وأما الشرك فلا يظن به على مواسم القوم في الظاهر أربعين سنة .

وقال الكلبي والسدي أي وجدك كافراً والقوم كفاراً فهداك ، وقد مضى الرد على هذا القول في سورة الشورى .


[60412]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/65).
[60413]:ينظر القرطبي 20/66.
[60414]:في أ: شأني.
[60415]:البيت لعبد المطلب بن هاشم ينظر القرطبي 20/66، والفخر الرازي 31/217.
[60416]:ينظر القرطبي 20/65.
[60417]:ينظر المصدر السابق.
[60418]:ينظر المصدر السابق.