{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } عما أنت عليه اليوم ، فهداك إلى الذي أنت عليه اليوم .
قال السدي : كان على أمر قومه أربعين عاماً ، وقال الكلبي : وجدك في قوم ضلال فهداك إلى التوحيد ، والنبوة ، وقيل : فهداهم بك ، وقال الحسن والضحّاك وشهر بن حوشب وابن كيسان : ووجدك ضالا عن معالم النبوة ، وأحكام الشريعة غافلا عنها ، فهداك إليها ، نظيره ودليله قوله سبحانه
{ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] وقوله تعالى :
{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] ، وقيل : ضالا في شعاب مكّة ، فهداك الى جدّك عبد المطلب ، وردّك إليه .
روى أبو الضحى ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل ، وهو صبي صغير في شعاب مكّة ، فرآه أبو جهل ، منصرفاً من أغنامه ، فردّه إلى جدّه عبد المطلب ، فمنّ الله سبحانه عليه بذلك ، حين ردّه إلى جدّه على يدي عدوّه .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس قال : حدّثنا عثمان بن سعيد قال : حدّثنا عمرو بن عوف قال : أخبرنا خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن العباس بن عبد الرحمن ، عن بشر بن سعيد ، عن أبيه قال : حججت في الجاهلية ، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت ، وهو يرتجز ، ويقول :
يا ربّ ردّ راكبي محمدا *** ردّ إليّ واصطنع عندي يدا
فقلت : من هذا ؟ قيل : عبد المطلب بن هاشم ، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها ، ولم يرسله في حاجة قط إلاّ جاء بها ، وقد احتبس عليه ، قال : فما برحتُ أنْ جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل ، فقال : يا بُنيّ لقد حزنت عليك حزناً لا يفارقني أبداً .
وفي حديث كعب الأحبار ، في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدء أمره أن حليمة لمّا قضت حق الرضاع ، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه إلى عبد المطلب ، قالت حليمة : فأقبلتُ أسير حتى أتيت الباب الأعظم من أبواب مكّة ، فسمعت منادياً ينادي : هنيئاً لكِ يا بطحاء مكة ، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال ، قالت : ثم وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقضي حاجة وأصلح ثيابي ، فسمعت هدّة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معاشر الناس أين الصبي ؟ فقالوا : أي الصبيان ؟
قلت : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، الذي نضرّ الله به وجهي ، وأغنى عيلتي ، ربيّته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه ، وأخرج هذا من أمانتي ، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض ، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل ، فلأقطعنّ إرباً إرباً .
قالوا : ما رأينا شيئاً ، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي ، وقلت : وامحمداه واولداه ، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي ، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقةً لي ، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا ، قال : مالك أيتها السعدية ؟
قلت : فقدت ابني محمداً ، فقال : لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه ، وإن شاء أن يردّه فعل ، قلت : فدتك نفسي ، ومن هو ؟ قال : الصنم الأعظم هبل .
قالت : فدخل وأنا أنظر ، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه : يا سيداه ، لم تزل منتك على قريش قديمة ، وهذه السعدية تزعم أن ابناً لها قد ضلّ ، فردّه إن شئت ، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة ، فأنها تزعم أن ابنها محمداً قد ضلّ ، قال : فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنّا أيها الشيخ . إنما هلاكنا على يدي محمد .
قالت : فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكاً ، ولركبته ارتعاداً ، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول : يا حليمة إن لابنك رباً لا يضيّعه فاطلبيه على مهل ، قالت : فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي ، فقصدته فلمّا نظر اليّ ، قال : أسعد نزل بكِ أم نحوس ؟ ، قلت : بل النحس الأكبر ، ففهمها منّي ، وقال : لعلّ ابنك ضلّ منك ، قالت : قلت : نعم فظنَّ أن بعض قريش قد اغتاله ، فسلّ عبد المطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه ، ونادى بأعلى صوته : يا آل غالب ، يا آل غالب ، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها ، وقالوا : ما قصتك ؟ ، قال : فُقد ابني محمد ، قالت قريش : اركب نركب معك ، فإنْ تسنّمت جبلا تسنماه معك ، وان خضت بحراً خضناه معك ، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها ، فلمّا أن لم ير شيئاً ترك الناس واتشح وارتدى بآخر ، وأقبل الى البيت الحرام ، فطاف اسبوعاً ثم أنشأ يقول :
يا ربّ ردّ راكبي محمداً *** ردّه ربي واتخذ عندي يدا
يا ربّ إنْ محمد لم يوجدا *** مجمع قومي كلّهم مبدّدا
فسمعنا منادياً ينادي من الهواء : معاشر الناس لا تضجوا ، فان لمحمد ربّاً لا يخذله ولا يضيّعه ، قال عبد المطلب : يا أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو ؟ ، قال بوادي تهامة عند شجرة اليمن .
فأقبل عبد المطلب راكباً متسلحاً ، فلمّا صار في بعض الطرق تلقّاه ورقة بن نوفل فصارا جميعاً يسيران ، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق ، قال له عبد المطلب : من أنت يا غلام ؟
قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، قال عبد المطلب : فدتك نفسي وأنا جدّك ، ثم حمله على قربوس سرجه وردّه إلى مكة واطمأنت قريش بعد ذلك .
وقال سعيد بن المسيب : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة ، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء على ناقة إذ جاء إبليس ، وأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق ، فجاء جبرائيل فنفخ إبليس نفخة وقع منها الى الحبشة وردّه الى القافلة ، فمنّ الله عليه بذلك " .
وقيل : وجدك ضالا ليلة المعراج حين انصرف عنك جبرائيل لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني ابن حبيش قال : قال بعض أهل الكلام في قوله : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى } : إن العرب إذا وجدت شجرة في فلاة من الأرض وحيدة ليس معها ثانية يسمونها : ضالة ، فيهتدون بها إلى الطريق .
قال : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى } أي وحيداً ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إليّ ، وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي : ووجدك خاملا لا تذكر ولا تُعرف من أنت ، فهداهم إليك حتى عرفوك ، وأعلمهم بما منّ به عليك .
قال بسام بن عبد الله : ووجدك ضالا نفسك لا تدري من أنت فعرّفك نفسك وحالك ، وقال أبو بكر الورّاق وغيره : ووجدك ضالا بحب أبي طالب فهداك إلى حبّه ، وغيره : وجدك محبّاً فهداك إلى محبوبك ، دليله قوله سبحانه ، إخباراً عن إخوة يوسف
{ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يوسف : 8 ] وقوله سبحانه :
{ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } [ يوسف : 95 ] اي فرط الحب ليوسف .
وقيل : وجدناك ناسياً شأن الاستثناء حين سُئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، دليله قوله
{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] أي تنسى ، وقال سهل : وجد نفسك نفس الشهوة والطبع ، فغيّره إلى سبيل المعرفة والشرع ، قال جنيد : وجدك متحيراً في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه ، لقوله
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ } [ النحل : 44 ] وقوله
{ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ } [ النحل : 64 ] .
قال بندار بن الحسين : ليس قائما مقام الأستدلال فتعرفت إليك ، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلة ، وقيل : وجدك طالباً لقبلتك ضالا عنها فهداك إليها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.