الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ} (7)

{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } عما أنت عليه اليوم ، فهداك إلى الذي أنت عليه اليوم .

قال السدي : كان على أمر قومه أربعين عاماً ، وقال الكلبي : وجدك في قوم ضلال فهداك إلى التوحيد ، والنبوة ، وقيل : فهداهم بك ، وقال الحسن والضحّاك وشهر بن حوشب وابن كيسان : ووجدك ضالا عن معالم النبوة ، وأحكام الشريعة غافلا عنها ، فهداك إليها ، نظيره ودليله قوله سبحانه

{ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] وقوله تعالى :

{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] ، وقيل : ضالا في شعاب مكّة ، فهداك الى جدّك عبد المطلب ، وردّك إليه .

روى أبو الضحى ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل ، وهو صبي صغير في شعاب مكّة ، فرآه أبو جهل ، منصرفاً من أغنامه ، فردّه إلى جدّه عبد المطلب ، فمنّ الله سبحانه عليه بذلك ، حين ردّه إلى جدّه على يدي عدوّه .

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس قال : حدّثنا عثمان بن سعيد قال : حدّثنا عمرو بن عوف قال : أخبرنا خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن العباس بن عبد الرحمن ، عن بشر بن سعيد ، عن أبيه قال : حججت في الجاهلية ، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت ، وهو يرتجز ، ويقول :

يا ربّ ردّ راكبي محمدا *** ردّ إليّ واصطنع عندي يدا

فقلت : من هذا ؟ قيل : عبد المطلب بن هاشم ، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها ، ولم يرسله في حاجة قط إلاّ جاء بها ، وقد احتبس عليه ، قال : فما برحتُ أنْ جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل ، فقال : يا بُنيّ لقد حزنت عليك حزناً لا يفارقني أبداً .

وفي حديث كعب الأحبار ، في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدء أمره أن حليمة لمّا قضت حق الرضاع ، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه إلى عبد المطلب ، قالت حليمة : فأقبلتُ أسير حتى أتيت الباب الأعظم من أبواب مكّة ، فسمعت منادياً ينادي : هنيئاً لكِ يا بطحاء مكة ، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال ، قالت : ثم وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقضي حاجة وأصلح ثيابي ، فسمعت هدّة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معاشر الناس أين الصبي ؟ فقالوا : أي الصبيان ؟

قلت : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، الذي نضرّ الله به وجهي ، وأغنى عيلتي ، ربيّته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه ، وأخرج هذا من أمانتي ، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض ، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل ، فلأقطعنّ إرباً إرباً .

قالوا : ما رأينا شيئاً ، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي ، وقلت : وامحمداه واولداه ، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي ، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقةً لي ، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا ، قال : مالك أيتها السعدية ؟

قلت : فقدت ابني محمداً ، فقال : لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه ، وإن شاء أن يردّه فعل ، قلت : فدتك نفسي ، ومن هو ؟ قال : الصنم الأعظم هبل .

قالت : فدخل وأنا أنظر ، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه : يا سيداه ، لم تزل منتك على قريش قديمة ، وهذه السعدية تزعم أن ابناً لها قد ضلّ ، فردّه إن شئت ، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة ، فأنها تزعم أن ابنها محمداً قد ضلّ ، قال : فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنّا أيها الشيخ . إنما هلاكنا على يدي محمد .

قالت : فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكاً ، ولركبته ارتعاداً ، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول : يا حليمة إن لابنك رباً لا يضيّعه فاطلبيه على مهل ، قالت : فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي ، فقصدته فلمّا نظر اليّ ، قال : أسعد نزل بكِ أم نحوس ؟ ، قلت : بل النحس الأكبر ، ففهمها منّي ، وقال : لعلّ ابنك ضلّ منك ، قالت : قلت : نعم فظنَّ أن بعض قريش قد اغتاله ، فسلّ عبد المطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه ، ونادى بأعلى صوته : يا آل غالب ، يا آل غالب ، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها ، وقالوا : ما قصتك ؟ ، قال : فُقد ابني محمد ، قالت قريش : اركب نركب معك ، فإنْ تسنّمت جبلا تسنماه معك ، وان خضت بحراً خضناه معك ، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها ، فلمّا أن لم ير شيئاً ترك الناس واتشح وارتدى بآخر ، وأقبل الى البيت الحرام ، فطاف اسبوعاً ثم أنشأ يقول :

يا ربّ ردّ راكبي محمداً *** ردّه ربي واتخذ عندي يدا

يا ربّ إنْ محمد لم يوجدا *** مجمع قومي كلّهم مبدّدا

فسمعنا منادياً ينادي من الهواء : معاشر الناس لا تضجوا ، فان لمحمد ربّاً لا يخذله ولا يضيّعه ، قال عبد المطلب : يا أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو ؟ ، قال بوادي تهامة عند شجرة اليمن .

فأقبل عبد المطلب راكباً متسلحاً ، فلمّا صار في بعض الطرق تلقّاه ورقة بن نوفل فصارا جميعاً يسيران ، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق ، قال له عبد المطلب : من أنت يا غلام ؟

قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، قال عبد المطلب : فدتك نفسي وأنا جدّك ، ثم حمله على قربوس سرجه وردّه إلى مكة واطمأنت قريش بعد ذلك .

وقال سعيد بن المسيب : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة ، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء على ناقة إذ جاء إبليس ، وأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق ، فجاء جبرائيل فنفخ إبليس نفخة وقع منها الى الحبشة وردّه الى القافلة ، فمنّ الله عليه بذلك " .

وقيل : وجدك ضالا ليلة المعراج حين انصرف عنك جبرائيل لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش .

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني ابن حبيش قال : قال بعض أهل الكلام في قوله : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى } : إن العرب إذا وجدت شجرة في فلاة من الأرض وحيدة ليس معها ثانية يسمونها : ضالة ، فيهتدون بها إلى الطريق .

قال : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى } أي وحيداً ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إليّ ، وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي : ووجدك خاملا لا تذكر ولا تُعرف من أنت ، فهداهم إليك حتى عرفوك ، وأعلمهم بما منّ به عليك .

قال بسام بن عبد الله : ووجدك ضالا نفسك لا تدري من أنت فعرّفك نفسك وحالك ، وقال أبو بكر الورّاق وغيره : ووجدك ضالا بحب أبي طالب فهداك إلى حبّه ، وغيره : وجدك محبّاً فهداك إلى محبوبك ، دليله قوله سبحانه ، إخباراً عن إخوة يوسف

{ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يوسف : 8 ] وقوله سبحانه :

{ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } [ يوسف : 95 ] اي فرط الحب ليوسف .

وقيل : وجدناك ناسياً شأن الاستثناء حين سُئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، دليله قوله

{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] أي تنسى ، وقال سهل : وجد نفسك نفس الشهوة والطبع ، فغيّره إلى سبيل المعرفة والشرع ، قال جنيد : وجدك متحيراً في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه ، لقوله

{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ } [ النحل : 44 ] وقوله

{ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ } [ النحل : 64 ] .

قال بندار بن الحسين : ليس قائما مقام الأستدلال فتعرفت إليك ، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلة ، وقيل : وجدك طالباً لقبلتك ضالا عنها فهداك إليها .