مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ} (7)

أما قوله تعالى : { ووجدك ضالا فهدى } فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافرا في أول الأمر ، ثم هداه الله وجعله نبيا ، قال الكلبي : { وجدك ضالا } يعني كافرا في قوم ضلال فهداك للتوحيد ، وقال السدي : كان على دين قومه أربعين سنة ، وقال مجاهد : { وجدك ضالا } عن الهدى لدينه واحتجوا على ذلك بآيات أخر منها قوله : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } وقوله : { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } وقوله : { لئن أشركت ليحبطن عملك } فهذا يقتضي صحة ذلك منه ، وإذا دلت هذه الآية على الصحة وجب حمل قوله : { ووجدك ضالا } عليه ، وأما الجمهور من العلماء فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة ، ثم قالت المعتزلة : هذا غير جائز عقلا لما فيه من التنفير ، وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلا لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافرا فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة ، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى : { ما ضل صاحبكم وما غوى } ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوها كثيرة ( أحدها ) : ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب : { ووجدك ضالا } عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلا عنها فهداك إليها ، وهو المراد من قوله : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } وقوله : { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } ( وثانيها ) : ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام ، وسمعت صوتا يقول : إنما هلاكنا بيد هذا الصبي ، وفيه حكاية طويلة ( وثالثها ) : ما روي مرفوعا أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع ، كاد الجوع يقتلني ، فهداني الله » ذكره الضحاك ، وذكر تعلقه بأستار الكعبة ، وقوله :

يا رب رد ولدي محمدا *** اردده ربي واصطنع عندي يدا

فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول : لا ندري ماذا نرى من ابنك ، فقال عبد المطلب ولم ؟ قال : إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت الناقة ، كأن الناقة تقول : يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى ! وقال ابن عباس : رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ( ورابعها ) : أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل ، فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي ، فهداه إلى القافلة ، وقيل : إن أبا طالب خرج به إلى الشام فضل عن الطريق فهداه الله تعالى ( وخامسها ) : يقال : ضل الماء في الليل إذا صار مغمورا ، فمعنى الآية كنت مغمورا بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه ( وسادسها ) : العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة ، كأنه تعالى يقول : كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت ، فأنت ، شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالا فهديت بك الخلق ، ونظيره قوله عليه السلام : «الحكمة ضالة المؤمن » ( وسابعها ) : ووجدك ضالا عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلا صبيا ، كما قال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة ، والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ ( وثامنها ) : كنت ضالا عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك ، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها البتة ( وتاسعها ) : أنه قد يخاطب السيد ، ويكون المراد قومه فقوله : { ووجدك ضالا } أي وجد قومك ضلالا ، فهداهم بك وبشرعك ( وعاشرها ) : وجدك ضالا عن الضالين منفردا عنهم مجانبا لدينهم ، فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد ، فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين ( الحادي عشر ) : وجدك ضالا عن الهجرة ، متحيرا في يد قريش متمنيا فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى ، فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد ، وكان ما كان من حديث سراقه ، وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله : { فهدى } ، ( الثاني عشر ) : ضالا عن القبلة ، فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا ، فهداه الله بقوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } فكأنه سمى ذلك التحير بالضلال ( الثالث عشر ) : أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف أهو جبريل أم لا ، وكان يخافه خوفا شديدا ، وربما أراد أن يلقي نفسه من الجبل فهداه الله حتى عرف أنه جبريل عليه السلام ( الرابع عشر ) : الضلال بمعنى المحبة كما في قوله : { إنك لفي ضلالك القديم } أي محبتك ، ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك ( الخامس عشر ) : ضالا عن أمور الدنيا لا تعرف التجارة ونحوها ، ثم هديتك حتى ربحت تجارتك ، وعظم ربحت حتى رغبت خديجة فيك ، والمعنى أنه ما كان لك وقوف على الدنيا ، وما كنت تعرف سوى الدين ، فهديتك إلى مصالح الدنيا بعد ذلك ( السادس عشر ) : { ووجدك ضالا } أي ضائعا في قومك ؛ كانوا يؤذونك ، ولا يرضون بك رعية ، فقوي أمرك وهداك إلى أن صرت آمرا واليا عليهم ( السابع عشر ) : كنت ضالا ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات ليلة المعراج ( الثامن عشر ) ووجدك ضالا أي ناسيا لقوله تعالى : { أن تضل إحداهما } فهديتك أي ذكرتك ، وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة ، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال : «لا أحصي ثناء عليك » ( التاسع عشر ) : أنه وإن كان عارفا بالله بقلبه إلا أنه كان في الظاهر لا يظهر لهم خلافا ، فعبر عن ذلك بالضلال ( العشرون ) : روى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك ، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته ، فإني قلت ليلة لغلام من قريش ، كان يرعى معي بأعلى مكة ، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة ، فأسمر بها كما يسمر الشبان ، فخرجت أريد ذلك حتى أتيت أول دار من دور مكة ، فسمعت عزفا بالدفوف والمزامير ، فقالوا فلان ابن فلان يزوج بفلانة ، فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس ، قال فجئت صاحبي ، فقال ما فعلت ؟ فقلت ما صنعت شيئا ، ثم أخبرته الخبر ، قال : ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ، فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس ، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته » .