في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون

هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها ؛ ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .

وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية . .

يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئا من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : ( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . .

وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه ؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أئنا لمردودون في الحافرة ? أئذا كنا عظاما نخرة ? قالوا : تلك إذا كرة خاسرة ! فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة . .

ومن هنالك . . من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور . . يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى : اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكى ? وأهديك إلى ربك فتخشى ? فأراه الآية الكبرى ، فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى ، فحشر فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى . . وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .

ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء ? بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ؛ والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها ، متاعا لكم ولأنعامكم ) . .

وهنا - بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية - يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، وبرزت الجحيم لمن يرى ! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) . .

وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ، والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . . في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ? فيم أنت من ذكراها ? إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) . . والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل !

( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعا شديدا .

/خ5

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النازعات

أهداف سورة النازعات

( سورة النازعات مكية ، وآياتها 46 آية ، نزلت بعد سورة النبأ )

وهي نموذج من نماذج هذا الجزء ، لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة بهولها وضخامتها ، وفي الطريق إلى ذلك يمهّد السياق بمطلع غامض مثير ، يسوقه في إيقاع موسيقى راجف لاهث . ( الآيات : 1-5 ) .

وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف ، يجئ المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ( الآيات 6-14 ) .

ثم يأخذ السياق في عرض حلقة من قصة موسى مع فرعون ، فيهدأ الإيقاع ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض . ( الآيات 15-26 ) .

ثم ينتقل السياق من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره في الدنيا والآخرة ، في تعبيرات قوية الأثر تأخذ بالألباب . ( الآيات : 27-33 ) .

ثم يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة . ( الآيات 34-41 ) .

ثم يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن موعدها ، يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها وضخامتها . ( الآيات 42 -46 ) .

مع آيات السورة

1-5- أقسم الله تعالى بالملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار إغراقا ، أي مبالغة في النزع ، وبالملائكة الذين يخرجون أرواح المؤمنين برفق ، فيسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج الشيء من أعماق البحر ، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، أو يسبقون للإيمان أو للطاعة لأمر الله ، فيدبرون ما يوكل إليكم من الأمور .

وقيل : أقسم الله تعالى بالنجوم ، تنزع في مداراتها وتتحرك ، وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل ، وتسبح سبحا في فضاء الله وهي معلقة به ، وتسبق سبقا في جريانها ودورانها ، وتدبّر من النتائج والظواهر ما وكّله الله إليه ، مما يؤثر في حياة الأرض ومن عليها .

وقيل : النازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي النجوم ، والمدبّرات هي الملائكة ، وجملة القول : فهذه أوصاف لموصوفات أقسم الله بها لعظم شأنها ، وكل ما يصدق عليه الوصف يصح أن يكون تفسير للآيات ، وهذا من إعجاز القرآن الكريم .

6- 9- اذكر يا محمد يوم تضطرب الأرض ويرتجف كل من عليها ، وتنشق السماء ، ويصعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، وهذه هي الراجفة أو النفخة الأولى في الصور ، يتبع ذلك النفخة الثانية ، التي يصحون عليها ويحشرون ، وهذه هي الرادفةi .

قلوب الكافرين تكون يوم القيامة شديدة الاضطراب ، بادية الذل ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والرجفة والانهيار .

10-14- يقول الكافرون المنكرون للبعث : أصحيح أننا إذا متنا راجعون إلى الأرض أحياء كما كنا ؟ أنعود للحياة بعد تحلل أجسادنا في التراب ؟ إن صح هذا فهو الخسران الخالص والرجعة الخاسرة التي لم نحسب حسابها .

لا تستبعدوا ذلك أيها الكافرون ، فإنما هي صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور ، فإذا الناس جميعا أحياء على سطح أرض القيامة .

15- 26- تحكى الآيات قصة موسى عليه السلام ، وهي قصة تكررت في القرآن ، لما لقيه موسى من شدة المعاناة مع قومه ، فأصبح نموذجا للصبر والثبات ، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) . ii .

تقول الآيات :

وهل جاءك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة ؟ حيث تفضّل الله عليه فناداه ، وكلّمه من وراء حجاب بالوادي المبارك من طور سيناء ( طوى )iii ، فقال له : اذهب إلى فرعون فإنه طغى وتجاوز الحد ، فتلطّف معه في القول وقل له : هل ترغب في أن تطهر نفسك من الآثام التي انغمست فيها ؟ وهل لك في الإيمان بالله ، واستشعار الجلالة والجبروت وخشية عقاب الله وحسابه ؟

بيد أن هذا القول لم يفلح في هداية قلب الطاغية الجبار ، فأظهر له موسى المعجزة الكبرى ، وهي انقلاب العصا حية وإخراج يده بيضاء بياضا ساطعا يغلب ضوء الشمس ، فأنكر فرعون رسالة موسى ، وعصى أمر ربه ، ثم أعرض عن موسى ، وسعى في إيذائه ، وحث الناس على مقاومة دعوته ، ثم جمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه ، فقام فيهم يقول : أنا ربكم الأعلى . الذي لا يدانيه أحد في القوة والعظمة ، وما زال في عتوّه وتطاوله حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر ( بحر القلزم ) عند خروجهم من مصر ، فأغرق فيه هو وجنوده ، تنكيلا به على ما صنع ، وله في الآخرة عذاب السعير ، وسيكون مثلا للأولين والآخرين . وفي قصة فرعون عبرة لمن له عقل يتدبر به في عواقب الأمور ، فيثوب إلى رشده ويتقي ربه .

27- 33- يخاطب الله منكري البعث ويرشدهم إلى أن بعثهم هين على الله ، بدليل ما يشاهدون من آثار قدرته في هذا الكون ، فيقول لهم : هل أنتم أشد خلقا أم خلق السماء أصعب وأشق ؟ إنكم لا تنازعون في أنها أشد منكم خلقا ، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها ، فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم ؟ والذي بنى السماء وأبدعها قادر على إعادتكم .

قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ( غافر : 57 ) .

لقد رفع الله سمك السماء ، أي : بناءها ، وسمك كل شيء قامته وارتفاعه ، والسماء مرفوعة في تناسق كامل ، وتنسيق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها ، وقد جعل ليلها مظلما بمغيب كوكبها ، وأنار نهارها بظهور الضحى .

والأرض بعد ذلك دحاها . ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات .

أخرج منها ماءها ومرعاها . أي : فجّر منها العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها النبات ، وثبّت الجبال في أماكنها وجعلها كالأوتاد ، لئلا تميد بأهلها وتضطرب بهم .

متاعا لكم ولأنعامكم . أي : إنما جعلنا ذلك كله ليتمتع به الناس والأنعام ، وليتنبه الإنسان إلى عظمة التدبير والتقدير ، فإن بناء السماء على هذا النحو ، وإظلام الليل ، وإضاءة النهار ، وتمهيد الأرض ، وإخراج النبات والماء ، وإرساء الجبال ، لم يكن كل ذلك سدى ، وإنما كان متاعا لكم ولأنعامكم .

وهذا المدبر الحكيم وفّر لكم هذا الخير الكثير لتتمتعوا به ، ومن الحكمة والتدبير أن يكون هناك بعث وجزاء ، لإثابة الطائع ومعاقبة الطغاة والعصاة .

34- 41- فإذا جاءت الداهية العظمى التي تعلو على سائر الدواهي ، وتشغل الإنسان عن ولده ونفسه ، غطت على كل شيء ، وطمت على كل شيء ، عندئذ يتذكر الإنسان سعيه ويستحضره أمامه ، حين يرى أعماله مدوّنة في كتابه ، وظهرت النار في مكان بارز ، حتى يراها كل ذي نظر ، عندئذ تختلف المصائر والعواقب ، فأما من تكبّر وعصى ربه وتجاوز حده ، وآثر شهوات الحياة الدنيا على ثواب الآخرة ، فالنار مثواه ومستقره .

وأما من استحضر في قلبه دائما عظمة الله تعالى ، ونهى النفس عما تهواه وتميل إليه بحسب طبيعتها ، فإن الجنة سكون له مستقرا ومقاما .

42- 46- يسألك كفار قريش والمتعنتون من المشركين عن القيامة : أيّان مرساها . متى قيامها وظهورها ؟ وأين موعدها ؟

فيم أنت من ذكراها . إنها لأعظم من أن تسأل أو تسأل عن موعدها ، فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك ، إلى ربك ينتهي علم الساعة ، فلا يعلم وقت قيامها غيره ، ولم يعط علمها لملك مكرم ، ولا لبني مرسل ، إنما أنت رسول مبعوث لتنذر من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ، ويعمل لها ويتوقعها .

وإذا جاءت الساعة ، ورأوا أهوالها وحسابها وجزاءها ، استهانوا بالدنيا ومتاعها وأعمارها ، ورأوا الدنيا بالنسبة للآخرة قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة ، وتنطوي الدنيا في نفوس أصحابها ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها ، فكأنما الدنيا ساعة من نهار ، أفمن أجل ساعة من نهار يضيع الإنسان الجنة والخلود في رضوانها ؟

قال تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . . . ( الروم : 55 ) .

أي أن الدنيا أو الحياة الفانية ليست إلا وقتا قصيرا بالنسبة للآخرة .

قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى . ( الأعلى : 16 ، 17 ) .

موضوعات سورة النازعات

1- إثبات البعث .

2- مقالة المشركين في إنكاره والرد عليهم .

3- قصة موسى مع فرعون ، وفيها عاقبة الطغاة .

4- آيات الله في الآفاق .

5- أهوال يوم القيامة .

6- الناس في هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء .

7- تساؤل المشركين عن الساعة وميقاتها .

8- نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحث عنها .

9- ذهول المشركين من شدة الهول ، والاستهانة بالدنيا حين يرون الآخرة .

الحلف على وقوع البعث

بسم الله الرحمان الرحيم

{ والنّازعات غرقا 1 والنّاشطات نشطا 2 والسّابحات سبحا 3 فالسّابقات سبقا 4 فالمدبّرات أمرا 5 يوم ترجف الرّاجفة 6 تتبعها الرّادفة 7 قلوب يومئذ واجفة 8 أبصارها خاشعة 9 يقولون أئنّا لمردودون في الحافرة 10 أئذا كنا عظاما نخرة 11 قالوا تلك إذا كرّة خاسرة 12 فإنما هي زجرة واحدة 13 فإذا هم بالسّاهرة 14 }

المفردات :

والنازعات : أقسم الله بالملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم .

غرقا : نزعا شديدا مؤلما بالغ الغاية .

التفسير :

1- والنّازعات غرقا .

أقسم الله تعالى بطوائف الملائكة التي تنزع أرواح الكفار بقسوة وشدة من أقاصي أجسامهم ، نزعا بالغ الصعوبة والعسر ، حيث تنزع روح الكافر من أقاصي جسده ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافر وأصول القدمين .

وفي الحديث الشريف ما يفيد أن روح الكافر تنزع بشدة ، حيث يكابد الكافر أشد الآلام في خروج روحه ، وأن روح المؤمن تنزع برفق ويسر ، وتخرج بسهولة ولطف ، كما تنزل القطرة من فم السّقاء .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون ، نزلت بعد سورة النبأ . وقد بُدئت بالقَسم بأصناف من المخلوقات على إمكان البعث ووقوعه ، وأن الناس سيبعثون إلى ربهم ، في يوم تعظم فيه الأهوال وتضطرب القلوب ، وتخشع الأبصار . . ومع هذا كله يقول الجاحدون منكرين البعث : هل لنا عودة إلى الحياة ، بعد أن نكون عظاما بالية ! هذا شيء باطل ، وإن صح ما يقال عن البعث فنحن إذا خاسرون . ورد الله تعالى عليهم بأن الرجعة ليست عسيرة ، وإنما هي صيحة واحدة ، فإذا جميع الناس بأرض المحشر .

ثم يلتفت الحديث إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويقص عليه قصة موسى وفرعون وما آل أمره إليه ، وفي ذلك عظة لمن يخاف الله .

ثم يوجه الكلام إلى أولئك المنكرين ، فيقول لهم : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها . . . } أمَا خلق هذا الكون العجيب المنتظم وما فيه من الخيرات { متاعا لكم ولأنعامكم } ؟

فإذا قامت القيامة الكبرى ، ففي ذلك اليوم { يتذكر الإنسان ما سعى } ، ويكون الناس فريقين : سعداء وأشقياء . أما المؤمنون العاملون فإن مأواهم الجنة ، يتمتعون فيها بأعظم نعيم . وأما الأشقياء فمأواهم جهنم .

ثم يتوجه الحديث إلى الرسول الكريم . . يسألك الجاحدون يا محمد عن الساعة متى تكون ؟ فلا تشغلْ نفسك بها ، فإلى ربك منتهى علم الساعة ، وإنما أنت رسول مبعوث للإنذار وتحذير الناس من المعاصي . ويوم يشاهدون القيامة يظنون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار عشية أو ضحاها من شدة ذهولهم .

النازعات : الملائكة ، أو الكواكب .

غرقاً : بشدة .

لقد جاء في القرآن الكريم ضروبٌ من القسَم بالأزمنة والأمكنة وبعض الأشياء ، ولو استعرضْنا جميع ما أقسم الله به لوجدناه إما شيئاً أنكره بعضُ الناس ، أو احتقره لغفْلتِه عن فائدته ، أو ذُهل من موضع العبرة فيه ، ولم ينتبه إلى حكمة الله في خَلْقه أو اعتقدَ فيه غيرَ الحق . فاللهُ سبحانه يقسِم به إما لتقرير وجودهِ في عقلِ من يُنكره ، أو تعظيمِ شأنِه في نفسِ من يحتقرُه .

فالقسَم بالنجوم ، جاء لأن قوماً يحقّرونها لأنها من جُملة عالَم المادّة ويغفلون عن حكمة الله فيها وما ناطَ بها من المصالح ، وآخرين يعتقدونها آلهة تتصرّف في هذه الأكوان ، فأقسَمَ اللهُ بها على أنها من المخلوقات التي تعرفُها القدرة الإلهية ، وليس فيها شيء من صفات الألوهية .

ولقد بدأ اللهُ سبحانه هذه السورة بالحَلْف بأصنافٍ من مخلوقاته ، إظهاراً لإتقان صُنعها وغزارة فوائدها بأن البعثَ حق ، وأن من قَدر على صُنعِ هذا الكونِ وما فيه لهو قادرٌ على إحياء الموتى .

فأقسَم بالنازعاتِ ، وهي الملائكةُ التي تنزع أرواح الكافرين بشدّة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النازعات وهي مكية

{ 1 - 14 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ }

هذه الإقسامات بالملائكة الكرام ، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله ، وإسراعهم في تنفيذ أمره ، يحتمل أن المقسم عليه ، الجزاء والبعث ، بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك ، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به متحدان ، وأنه أقسم على الملائكة ، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة ، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة عند الموت وقبله وبعده ، فقال : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة ، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح ، فتجازى بعملها .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات

مكية وآياتها 46 نزلت بعد النبأ

اختلف في معنى النازعات والناشطات والسابقات والسابحات والمدبرات ، فقيل : إنها الملائكة وقيل : النجوم ، فعلى القول بأنها الملائكة سماهم نازعات لأنهم ينزعون نفوس بني آدم من أجسادهم وناشطات لأنهم ينشطونها أي : يخرجونها فهو من قولك : نشطت الدلو من البئر إذا أخرجتها وسابحات لأنهم يسبحون في سيرهم أي : يسرعون فيسبقون فيدبرون أمور العباد والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمرهم الله وعلى القول بأنها النجوم سماها نازعات لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب وناشطات لأنها تنشط من برج إلى برج وسابحات لأنها تسبح في الفلك ومنه { كل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : 33 ] فتسبق في جريها فتدبر أمرا من علم الحساب ، وقال ابن عطية : لا أعلم خلافا أن المدبرات أمرا الملائكة وحكى الزمخشري فيها ما ذكرنا وقد قيل : في النازعات والناشطات أنها النفوس تنزع من معنى النزع بالموت فتنشط من الأجساد ، وقيل : في السابحات والسابقات أنها الخيل وأنها السفن .

{ غرقا } إن قلنا النازعات الملائكة ففي معنى غرقا وجهان :

أحدهما : أنها من الغرق أي : تغرق الكفار في جهنم .

والآخر : أنه من الإغراق في الأمر بمعنى المبالغة فيه أي : تبالغ في نزعها فتقطع الفلك كله ، وإن قلنا إنها النفوس فهو أيضا من الإغراق أي : تغرق في الخروج من الجسد والإعراب غرقا مصدر في موضع الحال ، ونشطا وسبحا وسبقا مصادر ، وأمرا مفعول به ، وجواب القسم محذوف وهو بعث الموتى بدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة ، وقيل : الجواب يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة على تقدير حذف لام التأكيد ، وقيل : هو { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } [ النازعات : 26 ] وهذا بعيد لبعده عن القسم ولأنه إشارة إلى قصة فرعون لا لمعنى القسم .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات{[1]} وتسمى الساهرة{[2]} والطامة

مقصودها بيان أواخر{[3]}أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام ، و{[4]} وقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام{[5]} ، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام ، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام ، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي{[6]} الملائكة الكرام ، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام ، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام ، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام ، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق ، وحصل التدبر في تقرير الوفاق { بسم الله } الظاهر الباطن الملك العلام { الرحمن } الذي عم بالإنعام { الرحيم* } الذي خص {[7]}أهل ولايته{[8]} بالتمام ، فاختصوا بالإكرام في دار السلام .

لما ذكر سبحانه يوم{[71294]} يقوم الروح ويتمنى الكافر العدم ، أقسم أول هذه بنزع الأرواح على الوجه الذي ذكره بأيدي الملائكة عليهم السلام على ما يتأثر عنه من البعث وساقه على وجه التأكيد بالقسم لأنهم به مكذبون فقال تعالى : { والنازعات } أي من الملائكة - كما قال علي وابن عباس رضي الله عنهم - للأرواح ولأنفسها من مراكزها{[71295]} في السماوات امتثالاً{[71296]} للأوامر الإليهة { غرقاً * } أي إغراقاً بقوة شديدة تغلغلاً إلى أقصى المراد من كل شيء من البدن حتى الشعر والظفر والعظم كما يغرق النازع في القوس فيبلغ أقصى المدّ ، وكان ذلك لنفوس الكفار{[71297]} والعصاة كما ينزع السفود وهو الحديدة المتشعبة المتعاكسة الشعب من الصوف المبلول ، وعم ابن جرير{[71298]} كما هي عادته في كل ما يحتمله اللفظ فقال : والصواب أن يقال : إن الله تعالى لم يخصص ، فكل نازعة داخلة في قسمه - يعني الاعتبار بما آتاها{[71299]} الله من القدرة على ذلك النزع الدالة على تمام الحكمة والاقتدار على ما يريده{[71300]} سبحانه .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[71294]:من ظ و م، وفي الأصل: حين.
[71295]:من ظ و م، وفي الأصل: مواكزها.
[71296]:من ظ و م، وفي الأصل: المتثالا.
[71297]:من ظ و م، وفي الأصل: النفوس.
[71298]:راجع جامع البيان 30/16.
[71299]:من م، وفي الأصل و ظ: آتاه.
[71300]:في ظ و م: يريد.