ثم يكشف عن السبب الذي استحقوا به ما نالهم وما ينتظرهم : ( ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا : أبشر يهدوننا ? ) . . وهو الاعتراض ذاته الذي يعترضه المشركون على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهو اعتراض فج ناشئ عن الجهل بطبيعة الرسالة ، وكونها منهجا إلهيا للبشر ، فلا بد أن تتمثل واقعيا في بشر ، يحيا بها ، ويكون بشخصه ترجمانا لها ؛ فيصوغ الآخرون أنفسهم على مثاله بقدر ما يستطيعون . ولا ينعزل هو عنهم بجنسه ، فيتعذر أن يجدوا للرسالة صورة واقعية يحاولون تحقيقها في ذوات أنفسهم ، وفي حياتهم ومعاشهم . وناشئ كذلك من الجهل بطبيعة الإنسان ذاته ورفعة حقيقته بحيث يتلقى رسالة السماء ويبلغها ، بدون حاجة إلى أن يحملها إلى الناس ملك كما كانوا يقترحون . ففي الإنسان تلك النفخة من روح الله ، وهي تهيئة لاستقبال الرسالة من الله ، وأدائها كاملة كما تلقاها من الملأ الأعلى . وهي كرامة للجنس البشري كله لا يرفضها إلا جاهل بقدر هذا الإنسان عند الله ، حين يحقق في ذاته حقيقة النفخة من روح الله ! وناشئ في النهاية من التعنت والاستكبار الكاذب عن اتباع رسول من البشر . كأن في هذا غضا من قيمة هؤلاء الجهال المتكبرين ! فجائز في عرفهم أن يتبعوا رسولا من خلق آخر غير جنسهم بلا غضاضة . أما أن يتبعوا واحدا منهم فهي في نظرهم حطة وقلة قيمة !
ومن ثم كفروا وتولوا معرضين عن الرسل وما معهم من البينات ، ووقفت في صدورهم هذه الكبرياء وذلك الجهل . فاختاروا لأنفسهم الشرك والكفر . .
( واستغنى الله . والله غني حميد ) . . استغنى الله عنهم وعن إيمانهم وعن طاعتهم . . وما هو - سبحانه - بمحتاج إلى شيء منهم ولا من غيرهم ، ولا بمحتاج أصلا : ( والله غني حميد ) .
فهذا نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم . وهذا سبب ما ذاقوا وما ينتظرهم . فكيف يكذب بعد هذا النبأ مكذبون جدد ? أليلقوا مصيرا كهذا المصير ?
تولّوا : أعرضوا عن الإيمان بالرسل .
6- { ذَلِكَ بأنّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
ذلك الذي أصابهم من عذاب الدنيا وسعير جهنم في الآخرة بسبب أن الرسل جاءت إليهم بالآيات البينات وألوان الهداية والمعجزات ، فقالوا : لا تبع بشرا مثلنا .
والله تعالى حكيم عليم ، حيث أرسل الرسل إلى البشر من جنسهم ، ليكون الرسول قدوة عميلة ، ونموذجا عمليا ، ولو كانت أقوام الرسل ملائكة تمشي مطمئنة في الأرض لأنزل الله عليهم ملكا رسولا ، لكنّ حكمته قد اقتضت أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم ، يتكلم بلغتهم ، ويحسّ بإحساسهم ، ويتحاور معهم باللغة التي يفهمونها .
قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم . . . }( إبراهيم : 4 ) .
ومن فضل الله أن يمنّ على بعض البشر بالرسالة ، فيصطفيهم ويختارهم : { الله أعلم حيث يجعل رسالته . . . }( الأنعام : 124 ) . ثم يُرسل أمين الوحي إليهم بالرسالة والنبوة ، وبذلك يتم فضل الله .
قال تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما } . ( النساء : 165 ) .
إن عذاب المكذبين وهلاكهم بسبب أنهم قابلوا رسلهم بالتكذيب والإعراض ، والله غني عنهم لا ينفعه إيمانهم ، ولا يضره كفرهم ، وهو سبحانه غني عن خلقه ، محمود على حسن فعله .
قال تعالى : { يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد*إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } . ( فاطر : 15-17 ) .
لقد أصابهم ما أصابهم من العذاب لأنهم كانت تأتيهم الرسلُ بالمعجزات الظاهرة فأنكروا ذلك أشدَّ الإنكار وقالوا { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ؟ } يرشدوننا وهم مثلُنا ! ! فأنكروا بعثهم { وَتَوَلَّواْ واستغنى الله } عنهم ، { والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فهو غنيٌّ عن الخلق أجمعين ، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم التي لا تُعدّ ولا تحصى .
{ ذَلِكَ } النكال والوبال ، الذي أحللناه بهم { بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالآيات الواضحات ، الدالة على الحق والباطل ، فاشمأزوا ، واستكبروا على رسلهم ، { فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي : فليس لهم فضل علينا ، ولأي : شيء خصهم الله دوننا ، كما قال في الآية الأخرى : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فهم حجروا فضل الله ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلاً للخلق ، واستكبروا عن الانقياد لهم ، فابتلوا بعبادة الأحجار والأشجار ونحوها { فَكَفَرُوا } بالله { وَتَوَلَّوْا } عن طاعه الله ، { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } عنهم ، فلا يبالي بهم ، ولا يضره ضلالهم شيئًا ، { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : هو الغني ، الذي له الغنى التام المطلق ، من جميع الوجوه ، الحميد في أقواله وأفعاله وأوصافه .
قوله تعالى : " ذلك " أي هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم " بالبينات " أي بالدلائل الواضحة . " فقالوا أبشر يهدوننا " أنكروا أن يكون الرسول من البشر . وارتفع " أبشر " على الابتداء . وقيل : بإضمار فعل ، والجمع على معنى بشر ؛ ولهذا قال : " يهدوننا " ولم يقل يهدينا . وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس ، وواحده إنسان لا واحد له من لفظه . وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد ؛ نحو قوله تعالى : " ما هذا بشرا " [ يوسف : 31 ] . " فكفروا وتولوا " أي بهذا القول ؛ إذ قالوه استصغارا ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده . وقيل : كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة . " واستغنى الله " أي بسلطانه عن طاعة عباده ، قاله مقاتل . وقيل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان ، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية .
ولما ذكر ما أحله بهم سبحانه وأشار إلى القطع بأنه من عنده باتساقه في خرقه العوائد بالاستئصال والخصوص لمن كذب الرسل والتنجية لمن صدقهم ، علله بقوله : { ذلك } أي الأمر الشنيع العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق . ولما لم يكن مقصودها كمقصود غافر من تصنيف الناس صنفين ، وإنما حصل تصنيفهم هنا بالعرض للدلالة على الساعة اكتفى بضمير الشأن فقال : { بأنه } أي بسبب أن الشأن العظيم البالغ في الفظاعة { كانت تأتيهم } على {[65733]}عادة مستمرة{[65734]} { رسلهم } أي رسل الله الذين أرسلهم{[65735]} إليهم وخصهم بهم ليكونوا موضع سرورهم بهم { بالبينات } أي الأمور التي توضح غاية الإيضاح أنهم رسل الله من الكتب وغيرها ، فشهدوا الأمر من معدنه ، فلذلك كان عذابهم أشد .
ولما كان سبحانه وتعالى قد أودع{[65736]} الإنسان من جملة ما منحه به خاصة لطيفة وهي العزة وحب الكبر والعلو ، فمن وضعها موضعها بالتكبر{[65737]} على من أمر الله بالتكبر عليه وهم{[65738]} شياطين الإنس والجن ممن عصاه سبحانه نجا ، ومن وضعها في غير موضعها بالتكبر على أولياء الله رب العزة هلك ، بين تعالى أن الكفار وضعوها في غير موضعها : { فقالوا } أي الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً : { أبشر } أي هذا الجنس وهو مرفوع على الفاعلية لأن الاستفهام يطلب الفعل ، ولما كان تكذيب الجمع أعظم ، وكان لو أفرد الضمير لم يكن له روعة الجمع قال : { يهدوننا } فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم { فكفروا } بذلك عقب مجيء الرسل وبسببه من غير نظر وتفكر وأدنى تأمل وتبصر حسداً للرسل لكونهم مساوين لهم في البشرية فاستبعدوا أن يخصوا من بينهم بأمر ولا سيما إن كان عظيماً جداً ، فلزمهم ارتكاب أقبح الأمور وهو استبعاد أن يكون النبي بشراً مع الإقرار بأن{[65739]} يكون الإله حجراً { وتولوا } أي كلفوا أنفسهم خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الإعراض عن الرسل بعد إنكار رسالتهم لشبهة قامت عندهم ، وذلك أنهم قالوا : إن الله عظيم لا يشبه البشر فينبغي أن يكون رسله من غير البشر ، ولو تأملوا حق التأمل لعلموا أن هذا هكذا ، وأن الرسل إنما هي ملائكة ، لكن لما كان لا يقوى جميع البشر على رؤية الملائكة كما هو مقتضى العظمة التي توهموها ولم يثبتوها على وجهها ، خص سبحانه من البشر ناساً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوى زائدة طوقهم بها على معالجتهم ، فأتوا إليهم ليكونوا واسطة بين الله وبين خلقه لأن بعض الجنس أميل إلى بعض وأقبل .
ولما كان هذا كله إنما هو لمصالح الخلق لا يعود على الله سبحانه وتعالى وعز شأنه نفع من وجوده ولا يلحقه ضرر من عدمه ولا بالعكس ، نبه على ذلك بقوله { واستغنى الله } أي فعل الملك الأعظم الذي{[65740]} لا أمر{[65741]} لأحد معه فعل من يطلب الغنى عنهم وأوجده إيجاداً عظيماً ممن هداه لاتباع الرسل فأعرض عنهم حين أعرضوا عن رسله فضرهم إعراضه عنهم{[65742]} ولم يضره إعراضهم وما ضروا إلا أنفسهم وأطلق الاستغناء ليعم كل شيء .
ولما كان التعبير بذلك قد يوهم حدوث ما لم يكن له ، نفى ذلك بقوله مظهراً {[65743]}زيادة في العظمة{[65744]} : { والله } أي المستجمع لصفات الكمال من غير تقيد بحيثية { غني } {[65745]}عن الخلق جميعاً{[65746]} { حميد * } له صفة الغنى المطلق والحمد الأبلغ الذي هو الإحاطة بجميع أوصاف الكمال على الدوام أزلاً وأبداً ، لم يتجدد له شيء لم يكن .