ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف . وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم :
( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم ) . .
وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة ، تستحق التدبر . فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق .
إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) . . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن ؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة ؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر ، أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] لتقوم الحياة على أساسه .
وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مسلما أمره كله لله ، منيبا إلى ربه بكليته :
( ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب ) . .
فتجيء هذه الإنابة ، وذاك التوكل ، وذلك الإقرار بلسان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في موضعها النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة . . . فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه ، وأنه يتوكل عليه وحده ، وأنه ينيب إليه دون سواه . فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر ، والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه ، وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل ، لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك ? وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى ، والنبي المهدي يتوكل على الله وحده ، وينيب إليه وحده ، بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار ?
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه ، فلا يتلفت هنا أو هناك . ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه ، والثقة بمواقع خطواته ، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار . ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه . والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله .
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه ، فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه ؛ ولا يجد أن هنالك حكماً غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه . والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم .
وما اختلفتم فيه من شيء : وما خالفكم الكفار والمشركون في الدين ، أو ما حدث بينكم فيه من خلاف .
وإليه أنيب : وإليه أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأمور .
10 – { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } .
ما تختلفون فيه من حكم بينكم وبين الكفار أو المشركين ، فالمرجع فيه هو كتاب الله وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو ما اختلفتم فيه من شيء بينكم وبين بعضكم ، فارجعوا إلى أمر الله سبحانه .
{ ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } .
هذا هو الله عليه اعتمادي وتوكلي ، ورجوعي إليه وحده ، هو الخالق البارئ الحاكم القادر ، إليه أتجه وأتحاكم ، وله وحده طاعتي واعتمادي ، فمن وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء .
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . . . } ( النساء : 59 ) .
قوله تعالى : " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، أي وما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أمر الدين ، فقولوا لهم حكمه إلى الله لا إليكم ، وقد حكم أن الدين هو الإسلام لا غيره . وأمور الشرائع إنما تتلقى من بيان الله . " ذلكم الله ربي " أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده ، وفيه إضمار : أي قل لهم يا محمد ذلكم الله الذي يحيي الموتى ويحكم بين المختلفين هو ربي . " عليه توكلت " اعتمدت . " وإليه أنيب " أرجع .
ولما كانوا جميعاً يقرون بجميع ما وصف به نفسه المقدسة في هذه الآية عند الشدائد ، بعضه تصريحاً من الوحدانية في الولاية والإحياء في هذه الدار والقدرة على كل شيء ، وبعضه لزوماً وهو الإحياء بالبعث ، تسبب عن ذلك قطعاً أن يقال مع صرف القول إلى الخطاب إشارة إلى أنه تعالى قرب إليهم كل خير وقرب إليهم فهم الوحدانية لعقولهم بعد أن فطرهم على لزومها عند الاضطرار ، فما اتفقتم فيه من أمره سبحانه فهو الحق ، وذلك هو أصل الدين الذي أطبق عليه الخلائق في وقت الاضطرار ، لم يتلعثم فيه منهم ضعيف ، ولا جبار منيف ، عطف عليه قوله : { وما اختلفتم } أي أيها الخلق { فيه من شيء } وذلك هو الفروع مطلقاً والأصول في حال الرفاهية { فحكمه إلى الله } أي الذي هو الولي لا غيره وهو القدير لا غيره ، فلا يخرج شيء عن أمره ، فحصوا عنه تجدوه في كتابه لأن فيه تبيان كل شيء ، فإن قصرت أفهامكم عن إخراجه منه فاطلبوه في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن عز عليكم ففي إجماع أهل دينه ، فإن أعوزكم ذلك ففي القياس على شيء من ذلك . قال القشيري : هذه الأشياء هي قانون الشريعة ، وجملتها من كتاب الله ، فإن الكتاب هو الذي يدل على صحة هذه الجملة - انتهى . وما اجتهدتم فيه على ما شرع لكم وفصلتموه بما ظهر لكم على حكم بذل الجهد مضى ، وما لا فصله بينكم سبحانه في هذا اليوم أن أراد بنصر المحق وخذلان الظالم ، وإن أراد أخره إلى يوم الدين ، فإن شاء عفا وإن شاء عاقب عليه ، فلا حكم لغيره لا في الدنيا ولا في الآخرة .
ولما أنتج هذا أنه لا عظيم غيره ، ولا إله إلا هو ، ترجم ذلك بقوله مخاطباً للكل : { ذلكم } أي العظيم الرتبة جداً { الله } المحيط بجميع أوصاف الكمال ، فلا شريك له في شيء منه بوجه { ربي } الذي لا مربي له غيره في ماضٍ ولا حال ولا استقبال . ولما كان ذلك ، أنتج ولا بد قوله : { عليه } أي وحده { توكلت } أي أسلمت جميع أمري { وإليه } أي لا إلى غيره { أنيب * } أي أرجع بالتوبة إذا قصرت في شيء من فروع شرعه وأرجع إلى كتابه إذا نابني أمر من الأمور ، فأعرف منه حكمه فافعلوا أنتم كذلك ، اجعلوه الحكم تفلحوا ، ولا تعدلوا عنه في شيء من الأشياء تهلكوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.