في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَشَجَرَةٗ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَيۡنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغٖ لِّلۡأٓكِلِينَ} (20)

17

ويخصص من الأنواع الأخرى شجرة الزيتون :

وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين . .

وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها . وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء . عند الوادي المقدس المذكور في القرآن . لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص . وهي تنبت هناك من الماء الذي أسكن في الأرض وعليه تعيش .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَشَجَرَةٗ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَيۡنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغٖ لِّلۡأٓكِلِينَ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدّهْنِ وَصِبْغٍ لّلاَكِلِيِنَ } .

يقول تعالى ذكره : وأنشأنا لكم أيضا شجرة تخرج من طور سيناء و «شجرة » منصوبة عطفا على «الجنات » ، ويعني بها : شجرة الزيتون .

وقوله : تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ يقول : تخرج من جبل يُنْبِت الأشجار .

وقد بيّنت معنى الطور فيما مضى بشواهده ، واختلاف المختلفين ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله : سَيْناءَ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : «سِيناءَ » بكسر السين . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : سَيْناءَ بفتح السين ، وهما جميعا مجمعون على مدّها .

والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان في قَرَأَة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : المبارك ، كأن معنى الكلام عنده : وشجرة تخرج من جبل مبارك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : طُورِ سَيْناءَ قال : المبارك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ قال : هو جبل بالشام مبارك .

وقال آخرون : معناه : حسن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : طُورِ سَيْناءَ قال : هو جبل حسن .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ طُورِ سَيْناءَ الطور : الجبل بالنبطية ، وسيناء : حسنة بالنبطية .

وقال آخرون : هو اسم جبل معروف . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخُراسانيّ ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ طُورِ سَيْناءَ قال : الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : طُورِ سَيْناءَ قال : هو جبل الطور الذي بالشام ، جبل ببيت المقدس ، قال : ممدود ، هو بين مصر وبين آيَلْة .

وقال آخرون : معناه : أنه جبل ذو شجر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عمن قاله .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن سيناء اسم أضيف إليه الطور يعرف به ، كما قيل جبلاً طيّىء ، فأضيفا إلى طيىء ، ولو كان القول في ذلك كما قال من قال معناه جبل مبارك ، أو كما قال من قال معناه حسن ، لكان «الطور » منوّنا ، وكان قوله «سيناء » من نعته . على أن سيناء بمعنى : مبارك وحسن ، غير معروف في كلام العرب فيجعل ذلك من نعت الجبل ، ولكن القول في ذلك إن شاء الله كما قال ابن عباس ، من أنه جبل عرف بذلك ، وأنه الجبل الذي نُودي منه موسى صلى الله عليه وسلم ، وهو مع ذلك مبارك ، لا أن معنى سيناء معنى مبارك .

وقوله : تَنْبُتُ بالدّهْنِ اختلفت القرّاء في قراءة قوله : تَنْبُتُ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : تَنْبُتُ بفتح التاء ، بمعنى : تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن ، وقرأه بعض قرّاء البصرة : «تُنْبِتُ » بضم التاء ، بمعنى : تنبت الدهن : تخرجه . وذكر أنها في قراءة عبد الله : «تُخْرِجُ الدّهْنَ » وقالوا : الباء في هذا الموضع زائدة ، كما قيل : أخذت ثوبه وأخدته بثوبه وكما قال الراجز :

نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أرْبابُ الفَلَجْ *** نَضْرِبُ بالْبِيضِ وَنَرْجُو بالفَرَجْ

بمعنى : ونرجو الفرج . والقول عندي في ذلك أنهما لغتان : نبت ، وأنبت ومن أنبت قول زهير :

رأيْتَ ذَوِي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتهِمْ *** قَطِينا لَهُمْ حتى إذَا أنْبَتَ البَقْلُ

ويروى : «نبت » ، وهو كقوله : فأَسْرِ بأهْلِكَ و «فاسْرِ » . غير أن ذلك وإن كان كذلك ، فإن القراءة التي لا أختار غيرها في ذلك قراءة من قرأ : تَنْبُتُ بفتح التاء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها . ومعنى ذلك : تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : تَنْبُتُ بالدّهْنِ قال : بثمره .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

والدهن الذي هو من ثمره الزيت ، كما :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَنْبُتُ بالدّهْنِ يقول : هو الزيت يؤكل ويُدّهن به .

وقوله : وَصِبْغٍ لْلاَكِلِينَ يقول : تنبت بالدهن وبصبغ للاَكلين ، يُصْطَبَغ بالزيت الذين يأكلونه . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَصِبْغٍ لْلاَكِلِينَ قال : هذا الزيتون صبغ للاَكلين ، يأتدمون به ويصطبغون به .

قال أبو جعفر : فالصبغ عطف على الدهن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَشَجَرَةٗ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَيۡنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغٖ لِّلۡأٓكِلِينَ} (20)

وقوله { وشجرة } عطف على قوله { جنات } ويريد بها الزيتونة وهي كثيرة في { طور سيناء } من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم فيه موسى عليه السلام قاله ابن عباس وغيره ، و «الطور » الجبل في كلام العرب وقيل هو مما عرب من كلام العجم واختلف في { سيناء } فقال قتادة معناه الحسن ويلزم على هذا التأويل أَن ينون «الطور » وقال مجاهد معناه مبارك ، وقال معمر عن فرقة ذو شجر ع ويلزمهم أن ينون «الطور » ، وقال الجمهور هو اسم الجبل كما تقول جبل أحد ، و { سيناء } ، اسم مضاف إليه الجبل ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير «سِيناء » بكسر السين ، وقرأ الباقون وعمر بن الخطاب «سَيناء » بفتح السين ، وكلهم بالمد ، فعلى فتح السين لا ينصرف الاسم بوجه ، وعلى كسر السين فالهمزة كهمزة حرباء ولم يصرف في هذه الآية لأَنه جعل اسم بقعة أو أَرض ، وقرأ الجمهور ، «تنبُت » بفتح التاء وضم الباء فالتقدير تنبت ومعها الدهن كما تقول خرج زيد بسلاحه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تُنبت » بضم التاء واختلف في التقدير على هذه القراءة ، فقالت فرقة الباء زائدة وهذا كقوله

{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }{[8470]} [ البقرة : 195 ] وهذا المثال عندي معترض وإن كان أبو علي ذكره وكقول الشاعر : [ الرجز ]

نحن بني جعدة أرباب الفلج . . . نضرب بالبيض ونرجو بالفرج{[8471]}

ونحو هذا . وقالت فرقة : التقدير «تنبت » جناها ومعه الدهن فالمفعول محذوف قاله أبو علي الفارسي أيضاً وقد قيل نبت وأنبت بمعنى فيكون الفعل كما مضى في قراءة الجمهور والأصمعي ينكر البيت ويتهم قصيدة زهير التي فيها أَنبت البقل{[8472]} ، وقرأ الزهري والحسن والأعرج «تُنبَتُ » برفع التاء ونصب الباء قال أَبو الفتح هي باء الحال أي تنبت ومعها دهنها{[8473]} وفي قراءة ابن مسعود تخرج بالدهن وهي أيضاً باء الحال وقرأ زر بن حبيش «تُنبِت » بضم التاء وكسر الباء «الدهن » بحذف الباء ونصبه وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان » بالألف والمراد في هذه الآية تعديد نعمة الزيت على الإنسان وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها ويدخل في معنى الزيتونة شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار وقرأت فرقة ، «وصبغ » ، وقرأت فرقة «وأصباغ » بالجمع ، وقرأ عامر بن عبد قيس ، «ومتاعاً للآكلين »{[8474]} .


[8470]:من الآية (195) من سورة (البقرة).
[8471]:هذا الرجز للنابغة الجعدي، وهو في الديوان، والخزانة، ومعجم البكري، ومغني اللبيب، والطبري، والقرطبي. والفلج: الماء الجاري، وهو في هذا الرجز موضع لبني جعدة، وهو في أعلى بلاد قيس. والبيض ـ بكسر الباء ـ: السيوف، أي: نقاتل بالسيوف، و (نحن) مبتدأ وخبره (بنو جعدة)، وروي البيت (بني جعدة) بالنصب على الاختصاص، فيكون خبر المبتدأ هو (أرباب)، والشاهد في البيت هو زيادة الباء في (بالفرج)، قال ابن عصفور في (الضرائر): زيادة الباء هنا ضرورة. ولكن ابن السيد قال في (شرح أدب الكاتب): إنما الرجاء بالباء لأنه بمعنى الطمع، والطمع يتعدى بالباء، قال الشاعر ـ وهو البعيث ـ: طمعت بليلى أن تجود وإنما تقطع أعناق الرجال المطامع
[8472]:هذه آخر جملة في بيت قاله زهير بن أبي سلمى من قصيدة له يمدح فيها سنان بن أبي حارثة المري، يقول في مطلعها: (صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو)، والبيت بتمامه مع بيت قبله: إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ونال كرام المال في الحجرة الأكل رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل والبيت في الديوان، وفي اللسان، والطبري، والقرطبي. والسنة الشهباء هي البيضاء من شدة الجدب لشدة ما فيها من ثلج وعدم النبات، وأجحفت: أضرت ضررا بالغا وأهلكت الأموال، والحجرة: السنة الشديدة التي تحجر الناس في البيوت، والمراد بقوله (نال كرام المال الأكل) أنهم لشدة الحاجة أكلوا أكرم ما عندهم وهو الإبل، والقطين: السكان المقيمون. والبيت يذكر شاهدا على أن نبت وأنبت بمعنى واحد، قال الفراء: هما لغتان، والأصمعي يتهم القصيدة.
[8473]:فهي كقولك: خرج بثيابه، أي: وثيابه عليه، كأنه قيل: خرج لابسا ثيابه. بهذا عبر أبو الفتح في المحتسب.
[8474]:قال أبو حيان الأندلسي في البحر: "كأنه يريد تفسير الصبغ".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَشَجَرَةٗ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَيۡنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهۡنِ وَصِبۡغٖ لِّلۡأٓكِلِينَ} (20)

و{ شَجَرَةً } عطف على { جنَّات } أي وأخرجنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون ، وجملة { تخرج } صفة ل { شجرة } وتخصيصها بالذكر مع طي كون الناس منها يأكلون تنويه بشأنها ، وإيماء إلى كثرة منافعها لأن من ثمرتها طعاماً وإصلاحاً ومداواة ، ومن أعوادها وَقود وغيره ، وفي الحديث « كلوا الزيت وادَّهِنوا به فإنَّه من شجرة مباركة » .

وطور سيناء : جبل في صحراء سيناء الواقعَةِ بينَ عقبة أيلة وبين مصر ، وهي من بلاد فلسطين في القديم وفيه ناجى موسى ربه تعالى ، وتقدم الكلام عليه في سورة الأعراف ( 143 ) عند قوله : { ولكن انظر إلى الجبل } وغلب عليه اسم الطور بدون إضافة ، وطورُ سيناء أو طور سينين . ومعنى الطور الجبل . وسيناء قيل اسم شجر يكثر هنالك . وقيل اسم حجارة . وقيل هو اسم لذلك المكان ، قيل هو اسم نبطي وقيل هو اسم حبشي ولا يصح . وإنما اغتر من قاله بمشابهة هذا الاسم لوصف الحَسَن في اللغة الحبشيَّة وهو كلمة سَناه ، ومثل هذا التشابه قد أثار أغلاطاً .

وسُكنت ياء { سيناء } سكوناً ميِّتا وبه قرأ الجمهور . ويجوز فيها الفتح وسكون الياء سكوناً حياً ، وبه قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ، وهو في القراءتين ممدود ، وهو فيهما ممنوع من الصرف فقيل للعلميَّة والعجمة على قراءة الكسر لأن وزن فِعْلاء إذا كان عينه أصلاً لا تكون ألفه للتأنيث بل للإلحاق وألف الإلحاق لا تمنع الصرف ، وعلى قراءة الفتح فمنعه لأجل ألف التأنيث لأن وزن فَعْلاء من أوزان ألف التأنيث .

وقوله : { تخرج من طور سيناء } يقتضي أن لها مزيد اختصاص بطُور سيناء . وقد غمض وجه ذاك . والذي أراه أن الخروج مستعمل في معنى النشأة والتخلق كقوله تعالى : { فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى } [ طه : 53 ] وقوله : { يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه } [ الزمر : 21 ] ، وذلك أن حقيقة الخروج هو البروز من المكان ولما كان كل مخلوق يبرز بعد العدم وكان المكان لازماً لكل حادث شبه ظهور الشيء بعد أن كان معدوماً بخروج الشيء من المكان الذي كان محجوباً فيه . وهي استعارة شائعة في القرآن .

فيظهر أن المعنى أن الله خلق أول شجر الزيتون في طور سيناء ، وذلك أن الأجناس والأنواع الموجودة على الكرة الأرضية لا بد لها من مواطن كان فيها ابتداء وجودها قبل وجودها في غيرها لأن بعض الأمكنة تكون أسعد لنشأة بعض الموجودات من بعض آخر لمناسبة بين طبيعة المكان وطبيعة الشيء الموجود فيه من حرارة أو برودة أو اعتدال ، وكذلك فصول السنة كالربيع لبعض الحيوان والشتاء لبعض آخر والصيف لبعض غيرها فالله تعالى يوجد الموجودات في الأحوال المناسبة لها فالحيوان والنبات كله جار على هذا القانون .

ثم إن البشر إذا نقلوا حيواناً أو نباتاً من أرض إلى أرض أو أرادوا الانتفاع به في فصل غيرِ فصله ورأوا عدم صلاحية المكان أو الزمان المنقول إليهما يحتالون له بما يكمل نقصه من تدفئة في شدة بَرد أو تبريد بسبح في الماء في شدة الحر حتى لا يَتعطل تناسل ذلك المنقول إلى غير مكانه ، فكما أن بعض الحيوان أو النبات لا يعيش طويلاً في بعض المناطق غير الملايمة لطباعه كالغزال في بلاد الثلوج فكذلك قد يكون بعض الأماكن من المنطقة الملائمة للحيوان أو النبات أصلح به من بعض جهات تلك المنطقة ، فلعل جَوّ طور سيناء لتوسطه بين المناطق المتطرفة حرّاً وبَرداً ولتوسط ارتفاعه بين النجود والسهول يكون أسعد بطبع فصيلة الزيتون كما قال تعالى : { زيتونة لاَ شرقية ولا غربيَّة } [ النور : 35 ] ، فالله تعالى هيأ لتكوينها حين أراد تكوينها ذلك المكان كما هيأ لتكوين آدم طينة خاصة فقال : { خلقَ الإنسانَ من صلصال } [ الرحمن : 14 ] ثم يكون الزيتون قد نقل من أول مكان ظهر فيه إلى أمكنة أخرى نقله إليها ساكنوها للانتفاع به فنجح في بعضها ولم ينجح في بعض .

وقد ثبت في التوراة أن شجرة الزيتون كانت موجودة قبل الطوفان وبعدَه . ففي الإصحاح الثامن من سفر التكوين : أن نوحاً أرسل حمامة تبحث عن مكان غِيضت عنه مياه الطوفان فرجعت الحمامة عند المساء تحمل في منقارها ورقة زيتون خضراء فعلم نوح أن الماء أخذ يغيض عن الأرض . ومعلوم أن ابتداء غَيض الماء إنما ينكشف عن أعالي الجبال أول الأمر فلعل ورقة الزيتون التي حملتها الحمامة كانت من شجرة في طور سيناء .

وأيّاً مَّا كان فقد عرف نوح ورقة الزيتون فدل على أنهم كانوا يعرفون هذه الشجرة من قبل الطوفان . ولكن لم يرد ذكر استعمال زيت الزيتون في طعام في التاريخ القديم إلاّ في عهد موسى عليه السلام أيام كان بنو إسرائيل حول طور سيناء ؛ فقد استعمل الزيت لإنارة خيمة الاجتماع بوحي الله لموسى ، وسَكب موسى دهن المسحة على رأس هارون أخيه حين أقامه كاهناً لبني إسرائيل .

ويجوز أن يكون معنى { تخرج } تظهر وتُعرف ، فيكون أول اهتداء الناس إلى منافع هذه الشجرة وانتقالهم إياها كان من الزيتون الذي بطور سيناء . وهذا كما نسمّي الديك الرومي في بلدنا بالديك الهندي لأن الناس عرفوه من بلاد الهند ، وكما تسمى بعض السيوف في بلاد العرب بالمَشْرَفِيَّةِ لأنَّها عرفت من مَشارف الشام ، وبعض الرماح الخَطيةَ لأنها ترد إلى بلاد العرب من مرفأ يقال له : الخَط ، وبعض السيوف بالمهنَّد لأنَّه يجلب من الهند ، وقد كان الزيت يجلب إلى بلاد العرب من الشام ومن فلسطين .

وأيّاً مَّا كان فليس القصد من ذكر أنها تخرج من طور سيناء إلاّ التنبيه على أنه منبتها الأصلي وإلاّ فإن الامتنان بها لم يكن موجهاً يومئذٍ لسكان طور سيناء ، وما كان هذا التنبيه إلاّ للتنويه بشرف منبتها وكرم الموطن الذي ظهرت فيه ، ولم تزل شجرة الزيتون مشهورة بالبركة بين الناس . ورأيت في « لسان العرب » عن الأصمعي عن عبد الملك بن صالح : أن كل زيتونة بفلسطين فهي من غرس أمم يقال لهم اليونانيون اه . والظاهر أنه يعني به زيتون زمانهم الذي أخلفوا به أشجاراً قديمة بادتْ .

وفي أساطير اليونان ( ميثولوجيا ) أن منيرفا ونَبْتُون ( الربين في اعتقاد اليونان ) تنازعا في تعيين أحدهما ليضع اسماً لمدينة بناها ( ككرابيس ) فحكمت الأرباب بينهما بأن هذا الشرف لا يناله إلاّ من يصنع أنفع الأشياء . فأما ( نبتون ) فأوجد فرساً بحرياً عظيم القوة ، وأما ( مينيرفا ) فصنَعت شجرة الزيتون بثمرتها ، فحكم الأربابُ لها بأنها أحق ، فلذلك وضعُوا للمدينة اسم ( أثينا ) الذي هو اسم منيرفا . وزعموا أن ( هيركول ) لما رجع من بعض غزواته جاء معه بأغصان من الزيتون فغرسها في جبل ( أولمبُوس ) وهو مسكن آلهتهم في زعمهم .

فقد كان زيت الزيتون مستعملاً عند اليونان من عهد ( هوميروس ) إذ ذكر في الإلياذة أن ( أخيل ) سكب زيتاً على شلو ( فطر قليوس ) وشلو ( هكتور ) .

وكان الزيت نادراً في معظم بلاد العرب إذ كان يجلب إلى بلاد العرب من الشام .

وقد ضرب الله بزيت الزيتونة مثلاً لنوره في قوله : { مَثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُرِّيّ يُوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تَمْسَسْهُ نارٌ نورٌ على نور } [ النور : 35 ] .

والتعبير بالمضارع في قوله : { تخرج من طور سيناء } لاستحضار الصورة العجيبة المهمة التي كونت بها تلك الشجرة في أول تكوينها حتى كأن السامع يبصرها خارجة بالنبات في طور سيناء ، وذلك كقوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } [ المائدة : 110 ] ، وهذا أنسب بالوجه الأول في تفسير معنى { تخرج من طور سيناء } .

ومعنى { تنبت بالدهن } أنها تنبت ملابسة للدهن فالباء للملابسة .

وهذه الآية مثال لباء الملابسة ، والملابسة معنى واسع ، فملابسة نبات شجرة الزيتون للدهن والصبْغ ملابسة بواسطة ملابسة ثمرتها للدهن والصبغ ، فإن ثمرتها تشتمل على الزيت وهو يكون دهناً وصبغاً للآكلين ، فأما كونه دهناً ، فهو أنه يدهن به الناس أجسادهم ويرجِّلون به شعورهم ويجعلون فيه عطوراً فيرجلون به الشعور ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدَّهن بالزيت في رأسه .

والدّهن بضم الدال : اسم لما يدهن به ، أي يطلَى به شيء ، ويطلق الدهن على الزيت باعتبار أنه يُطلَى به الجسد للتداوي والشَّعَر للترجيل .

والصِّبغ ، بكسر الصَّاد : ما يصبغ به أي يُغير به اللَّون . ثم تُوسع في إطلاقه على كل مائع يطلى به ظاهر جسم مَّا ، ومنه قوله تعالى : { صبْغةَ الله } [ البقرة : 138 ] . وسمي الزيت صبغاً لأنه يصبغ به الخبز . وعَطفُ { صِبغ } على { الدهن } باعتبار المغايرة في ما تدل عليه مادّة اشتقاق الوصف فإن الصبغ ما يصبغ به والدهن ما يدهن به والصبغ أخص ؛ فهو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام ، وكانوا يأدِمون به الطعام وذلك صبغ للطعام ، أخرج الترمذي في « سننه » عن عمر بن الخطاب وعن أبي أُسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة " . وقرأ الجمهور { تَنبُت } بفتح التاء وضَم الموحدة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورُويس ويعقوب بضم التاء وكسر الموحدة على لغة من يقول : أنبت بمعنى نبت أو على حذف المفعول ، أي تُنبت هي ثَمرها ، أي تخرجه .