وعلى ضوء هذه الحقيقة التي تنطق بها السماوات والأرض ، ويشهد بها كل شيء في الوجود ، يلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] استنكار ما يعرضونه عليه من مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يعبدوا معه إلهه . كأن الأمر أمر صفقة يساوم عليها في السوق !
( قل : أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ? ) . .
وهو الاستنكار الذي تصرخ به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبىء عن الجهل المطلق المطبق المطموس .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونّيَ أَعْبُدُ أَيّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لمشركي قومك ، الداعيك إلى عبادة الأوثان : أفَغَيرَ اللّهِ أيها الجاهلون بالله تَأْمُرُونّي أن أعْبُدُ ولا تصلح العبادة لشيء سواه .
واختلف أهل العربية في العامل ، في قوله أفَغَيْرَ النصب ، فقال بعض نحويي البصرة : قل أفغير الله تأمروني ، يقول : أفغير الله أعبد تأمروني ، كأنه أراد الإلغاء ، والله أعلم ، كما تقول : ذهب فلأن يدري ، جعله على معنى : فما يدري . وقال بعض نحويي الكوفة : «غير » منتصبة بأعبد ، وأن تحذف وتدخل ، لأنها علم للاستقبال ، كما تقول : أريد أن أضرب ، وأريد أضرب ، وعسى أن أضرب ، وعسى أضرب ، فكانت في طلبها الاستقبال ، كقولك : زيدا سوف أضرب ، فلذلك حُذفت وعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولا حاجة بنا إلى اللغو .
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد ، و{ تأمروني } اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ، ويجوز أن ينتصب غير بما دل عليه { تأمروني أن أعبد } لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف إن ورفع كقوله :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى *** . . .
ويؤيده قراءة { أعبد } بالنصب ، وقرأ ابن عامر " تأمرونني " بإظهار النونين على الأصل ونافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيرا .
هذا نتيجة المقدمات وهو المقصود بالإثبات ، فالفاء في قوله : { أفغير الله } لتفريع الكلام المأمور الرسولُ صلى الله عليه وسلم بأن يقوله على الكلام الموحَى به إليه ليقرع به أسماعهم ، فإن الحقائق المتقدمة موجهة إلى المشركين فبعْدَ تقررها عندهم وإنذارهم على مخالفة حالهم لما تقتضيه تلك الحقائقُ أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يوجِّه إليهم هذا الاستفهام الإِنكاري منوعاً على ما قبله إذ كانت أنفسهم قد خَسئت بما جَبَهَها من الكلام السابق تأييسها لهم من محاولة صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن التوحيد إلى عبادة غير الله .
وتوسط فعل { قُل } اعتراض بين التفريع والمفرَّع عنه لتصيير المقام لخطاب المشركين خاصة بعد أن كان مقام الكلام قبله مقامَ البيان لكل سامع من المؤمنين وغيرهم ، فكان قوله : { قُلْ } هو الواسطة في جعل التفريع خاصّاً بهم ، وهذا من بديع النظم ووفرة المعاني وهو حقيق بأن نسميه « تلوين البساط » .
و { غير الله } منصوب ب { أعْبُدُ } الذي هو متعلق ب { تأمُرُوني } على حذف حرف الجر مع ( أَنْ ) وحذف حرف الجر مع ( أَنْ ) كثير فقوله : { أعْبُد } على تقدير : أن أعبد فلما حذف الجار المتعلق ب { تأمروني } حذفت ( أن ) التي كانت متصلة به ، كما حذفت في قول طرفه :
ألاَ أيهذا الزاجري احضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي
وهذا استعمال جائز عند أبي الحسن الأخفش وابن مالك ونحاة الأندلس .
والجمهور يمنعونه ويجعلون قوله : { أعْبُدُ } هو المستفهم عنه ، وفعلَ { تأمروني } اعتراضاً أو حالاً ، والتقدير : أَأَعْبُدُ غير الله حال كونكم تأمرونني بذلك ، ومنه قولهم في المثل : تَسْمَع بالمعيدي خيرٌ من أَن تراه ، وفي الحديث " وتعينُ الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمِلُ عليها متاعَه صدقة "
وقرأ نافع { تَأمُرُوني } بنون واحدة خفيفة على حذف واحدة من النونين اللتين هما نون الرفع ونون الوقاية على الخلاف في المحذوفة وهو كثير في القرآن كقوله : { فبم تبشرون } [ الحجر : 54 ] ، وفتحَ نافع ياء المتكلم للتخفيف والتفادي من المدّ . وقرأ الجمهور { تأمروني } بتشديد النون إدغاماً للنونين مع تسكين الياء للتخفيف . وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتح الياء . وقرأ ابن عامر { تأمرونني } بإظهار النونين وتسكين الياء .
ونداؤهم بوصف الجاهلين تقريع لهم بعد أن وصفوا بالخسران ليجمع لهم بين نقص الآخرة ونقص الدنيا . والجهل هنا ضد العلم لأنهم جهلوا دلالة الدلائل المتقدمة فلم تفد منهم شيئاً فعمُوا عن دلائل الوحدانية التي هي بمرأى منهم ومسمع فجهلوا دلالتها على الصانع الواحد ولم يكفهم هذا الحظ من الجهل حتى تدلَّوا إلى حضيض عبادة أجسام من الصخّر الأصم . وإطلاق الجهل على ضد العلم إطلاق عربي قديم قال النابغة :
يُخْبِرْكَ ذُو عِرْضِهم عني وعالمهم *** وليس جاهلُ شيء مثل مَن عَلِما
وقال السموأل أو عبدُ الملك بن عبد الرحيم الحارثي :
سَلِي إن جَهِلتتِ الناس عنا وعنهم *** فليسَ سواءً عالمٌ وجهول
وحُذف مفعول { الجاهلون } لتنزيل الفعل منزلة اللازم كأنَّ الجهل صار لهم سجية فلا يفقهون شيئاً فهم جاهلون بما أفادته الدلائل من الوحدانية التي لو علموها لما أشركوا ولمَا دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباع شركهم ، وهم جاهلون بمراتب النفوس الكاملة جهلاً أطمَعهم أن يصرفوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التوحيد وأن يستزِّلوه بخزعبلاتهم وإطماعهم إياه أَن يعبدوا الله إن هو شاركهم في عبادة أصنامهم يحسبون الدِّين مساومة ومغابنة وتطفيفاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.