الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَأۡمُرُوٓنِّيٓ أَعۡبُدُ أَيُّهَا ٱلۡجَٰهِلُونَ} (64)

قوله : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو الظاهرُ - أنَّ " غير " منصوبٌ ب " أَعْبُدُ " . و " أعبدُ " معمولٌ ل " تَأْمرونِّي " على إضمارِ " أنْ " المصدريةِ ، فلَمَّا حُذِفَت بَطَل عملُها وهو أحد الوجهين . والأصل : أفتأمرونِّي بأَنْ أعبدَ غيرَ اللَّه ، ثم قُدِّم مفعولُ " أعبدُ " على " تَأْمُرونِّي " العاملِ في عامِله . وقد ضَعَّف بعضُهم هذا : بأنه يَلْزَمُ منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول ؛ وذلك أنَّ " غيرَ " منصوبٌ ب " أعبدُ " ، و " أعبدُ " صلةٌ ل " أنْ " وهو لا يجوزُ . وهذا الردُّ ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ الموصولَ لمَّا حُذِفَ لم يُراعَ حُكْمُه فيما ذُكِرَ ، بل إنما يراعَى معناه لتصحيح الكلامِ . قال أبو البقاء : " لو حَكَمْنا بذلك لأَفْضَى إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه ، وذلك لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ . وهذا الذي ذكره فيه نظرٌ ؛ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ ب " أنْ " دونَ سائرِ الموصولات ، وهو أنها تُحْذَفُ وتَبْقى صلتُها ، وهو منقاسٌ عند البصريين في مواضعَ تُحْذَفُ ويَبْقى عملُها ، وفي غيرِها إذا حُذِفَتْ لا يبقى عملُها إلاَّ في ضرورةٍ ، أو قليلٍ ، ويُنْشَدُ بالوجهين :

3904 ألا أيُّهذا الزاجريْ أحضرُ الوغى *** وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخْلِدي

ويَدُلُّ على إرادة " أنْ " في الأصل قراءةُ بعضِهم " أعبدَ " بنصب الفعل اعتداداً بأَنْ . الثاني : أنَّ " غيرَ " منصوبٌ ب " تأمرونِّي " و " أعبد " بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ ، و " أنْ " مضمرةٌ معه أيضاً . والتقديرُ : أفغيرَ اللَّهِ تأمرونِّي عبادتَه . والمعنى : أفتأمرونِّي بعبادة غيرِ الله . وقدَّره الزمخشري : تُعَبِّدُوني وتقولون لي : اعْبُدْه . والأصل : تَأْمُرونني أن أعبدَ ، فَحَذَفَ " أنْ " ورَفَع الفعلَ . ألا ترى أنك تقول : أفغيرَ اللَّهِ تقولون لي اعبده ، وأفغيرَ اللَّهِ تقولون لي : اعبد ، فكذلك أفغيرَ الله تقولون لي أَن أعبده ، وأفغيرَ الله تأمروني أَنْ أعبدَ . والدليلُ على صحةِ هذا الوجهِ قراءةُ مَنْ قرأ " أعبدَ " بالنصبِ .

وأمَّا " أعبد " ففيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مع " أَنْ " المضمرةِ في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ " غير " وقد تقدَّم . الثاني : أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال . الثالث : أنه لا محلَّ له البتَةَ .

قوله : " تَأْمُرُوْنِّي " بإدغامِ نونِ الرفعِ في نونِ الوقايةِ وفتح الياءِ ابنُ كثير ، وأَرْسلها الباقون . وقرأ نافع " تَأْمرونيَ " بنون خفيفة وفتح الياء . وابنُ عامر " تأْمرونني " بالفَكِّ وسكونِ الياء . وقد تقدَّم في سورة الأنعام والحجر وغيرِهما : أنه متى اجتمع نونُ الرفعِ مع نونِ الوقاية جاز ثلاثةُ أوجهٍ ، وتقدَّم تحقيقُ الخلافِ في أيتِهما المحذوفةِ ؟