اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَأۡمُرُوٓنِّيٓ أَعۡبُدُ أَيُّهَا ٱلۡجَٰهِلُونَ} (64)

قوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أن{[47661]} «غير » منصوب «بأعبد »{[47662]} و «أعبد » معمول «لتأمروني » على إضمار «أنْ » المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها وهو أحد الوجهين والأصل أفَتَأمُرُونِي بأن أعْبُدَ غير الله ثم قدم مفعول «أعبد » على «تأمروني » العامل في عامله ، وقد ضعف بعضهم هذا بأنه يلزم منه تقديم معمول الصلة على الموصول ، وذلك أن «غير » منصوب «بأعبد » و «أعبد » صلة «لأن » وهذا لا يجوز{[47663]} .

وهذا الرد ليس بشيء لأن الموصول لما حذف لم يراع حكمه فيما ذكر بل إنما يراعى معناه لتصحيح الكلام{[47664]} .

قال أبو البقاء : لو حكمنا بذلك{[47665]} لأفضى إلى حذف الموصول وإبقاء صلته وذلك لا يجوز إلاَّ في ضرورة شعر{[47666]} .

وهذا الذي ذكر فيه نَظَرٌ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ «بأَنْ » دون سائر الموصولات وهو أنها تحذف ويبقى صلتها وهو منقاس عند البصريين في مواضع{[47667]} تحذف ويبقى عملها وفي غيرها إذا حذفت لا يبقى عملها إلا في ضرورة أو قليل ، وينشد بالوجهين ( قوله ) :

4310- أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِري أَحْضُرُ الوَغَى . . . وأَنْ أَشْهَدَ اللذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي{[47668]}

ويدل على إرادة «أن » في الأصل قراءة بعضهم : «أَعْبُدَ »{[47669]} بنصب الفعل اعتداداً بأن .

الثاني : أن «غَيْر » منصوب «بتَأْمُرُونيِّ » و «أَعْبُد » بدل منه بدل اشتمال ، و «أَنْ » مضمرة معه أيضاً .

والتقدير : أفغَيْر اللَّه تأمرونِّي في عبادته ، والمعنى : أفتأمروني بعبادة غير الله{[47670]} .

الثالث : أنها منصوبة بفعل مقدر ( تقديره ){[47671]} أفتُلْزِمُوني غير{[47672]} الله أي عبادة غير الله ، وقدره الزمخشري تعبدون ( ي ){[47673]} وتقولون لي أعبده{[47674]} ، والأصل : تأمُرُونَني أن أعبد ( فحذفت ) أن ، ورفع الفعل ، ألا ترى أنك تقول : أفغير الله تَقُولُون لي أعْبُدُهُ ، وأفغير الله تقولون لي أعبد ، فكذلك ، أفغير الله تقولون{[47675]} لي أن أعبُدَهُ ، وأفغير الله تَأمُرُونِّي أَنْ أَعْبُدَ{[47676]} .

والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ «أَعْبُدَ » بالنصب ، وأما «أعبد » ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مع «أن » المضمرة في محل نصب على البدل من «غير » ، وقد تقدم .

الثاني : أنه في محل نصب على الحال .

الثالث : أنه لا محل له ألبتة{[47677]} .

قوله : { تأمروني } قرأ الجمهور «تَأمُرونِّي » بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وفتح الياءَ ابن كثير ، وأرسلها{[47678]} الباقون ، وقرأ نافع «تأمُرُونِيَ » بنون خفيفة وفتح الياء وابنُ عامر تأمرونَنِي بالفك وسكون الياء{[47679]} ، وقد تقدم في سورة الأنعام{[47680]} ، والحِجْر{[47681]} ، وغيرهما أنه متى اجتمع نون الرفع مع نون الوقاية جاز ذلك أوجه وتقدم تحقيق الخلاف في أيتهما المحذوفة{[47682]} .

قال مقاتل : وذلك حين قال له المشركون : دَعْ دينك واتبع دين آبائك ونؤمن بإلَهك ، ونظير هذه الآية : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } [ الأنعام : 14 ] ، وتقدم في تلك الآية وجه الحكمة في تقدم المفعول ووصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقاً للأشياء كلها وبكونه له مقاليد السموات والأرض وكون هذه الأصنام جمادات لا تَضُرُّ ولا تنفع فمن أعْرَض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات المقدسة الشريفة واشتغل بعبادة الأصنام الخَسيسَة فقد بلغ في الجهل مبلغاً لا مزيد عليه ، فلهذا قال : { أَيُّهَا الجاهلون }{[47683]} .


[47661]:في ب أنه غير. تحريف وخطأ.
[47662]:قاله الزمخشري في الكشاف 3/407 والسمين في الدر 4/661.
[47663]:بالمعنى من البحر 7/438 وانظر: السمين 4/661.
[47664]:نقله السمين في الدر 4/662 بالمعنى من البيان لابن الأنباري 2/325 قال: "إلا أنه لما حذف "أن" سقط حكمها والدليل على ذلك أن الفعل قد ارتفع ولو كان حكم أن ثابتا لوجب أن يكون الفعل منصوبا فلما لم ينصب دل على سقوط حكمها".
[47665]:أي بقاء حكم أن.
[47666]:التبيان 1113.
[47667]:يريد مواضع إضمار أن وجوبا. وقد ذكرها النحويون في كتبهم ومنهم ابن يعيش في شرح المفصل 7/19 و 27.
[47668]:من الطويل لطرفة بن العبد، والزاجري الذي يكفني ويمنعني. والوغى: الحرب وهو يفتخر بمنازلة الأقران ويرى أن امتناعه عن الحرب عيب، فهو ليس بخالد، وسيأتي الموت يوما. والشاهد: أحضر فقد رويت بروايتين نصب ورفع فالنصب على أنه مضارع منصوب بأن المصدرية محذوفة وهذه ضرورة كما قال الأعلم. وانظر: الإنصاف 560 وشرح ابن يعيش 2/7 و 7/52 والمغني 383 و 641 واللسان [أنن] والكتاب 3/99 و 100 والدر المصون 4/662 والكشاف 3/407.
[47669]:لم تنصب في ابن خالويه ولا في البحر 7/439 ولا في الدر المرجع السابقان.
[47670]:قال بهذا الوجه ابن الأنباري في البيان 2/325 و 326 والسمين في الدر 4/662 والتبيان 1113.
[47671]:سقط من ب.
[47672]:المرجع السابق.
[47673]:الياء سقطت من ب.
[47674]:في الكشاف: أعبد بدون هاء.
[47675]:وفيه تأمرونني أن أعبد.
[47676]:وانظر: الكشاف 3/407.
[47677]:قال بهذين الوجهين أبو البقاء في التبيان 1113 والسمين في الدر 4/663.
[47678]:والإرسال هنا إسكان الياء مع المد فيها.
[47679]:وتلك قراءات متواترة انظر: السبعة لابن مجاهد 563 والإتحاف للبناء 376 و 377 والنشر لابن الجزري 2/263 والكشف لمكي 2/240 وحجة ابن خالويه 311.
[47680]:عند قوله: {قال أتحاجوني في الله وقد هدان } الآية 80.
[47681]:عند قوله: {فيم تبشرون}.
[47682]:وللعلماء في ذلك أقوال فمن قائل إن المحذوف –وهو مذهب الغالب- هو نون الوقاية، ومن قائل: إن المحذوف هو النون الأولى نون الرفع والأفعال الخمسة، ويؤيد المذهب الأول وهو حذف نون الوقاية أنها طرف والطرف محل تغيير.
[47683]:وانظر: الرازي 27/12.