( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، ثم جاهدوا وصبروا ، إن ربك من بعدها لغفور رحيم . يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها . وتوفى كل نفس ما عملت ، وهم لا يظلمون )
وقد كانوا من ضعاف العرب ، الذين فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب وغيره . ولكنهم هاجروا بعد ذلك عندما أمكنتهم الفرصة ، وحسن إسلامهم ، وجاهدوا في سبيل الله ، صابرين على تكاليف الدعوة . فالله يبشرهم بأنه سيغفر لهم ويرحمهم ( إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين ، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم ، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم ، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله وصبروا على جهادهم ، { إنّ رَبّكَ منْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } يقول : إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور ، يقول : لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم ، وهم لغيرها مضمرون وللإيمان معتقدون ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم .
وذُكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلّفوا بمكة بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاشتدّ المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم ، فأيسوا من التوبة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ } قال : ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش بالطريق ، ففتنوهم وكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال ابن جريج : قال الله تعالى ذكره : ل{ مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ{ ثم نسخ واستثنى ، فقال : { ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ، ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يُقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة . فلما جاءهم ذلك تبايعوا بينهم على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله . فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قُتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله تعالى : { ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا . . . } الآية .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا ، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالإِسْلاَمِ ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ بَعْضٌ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلاَءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ ، فَنَزَلَتْ : *إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ* إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، قَالَ : وَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الآيَةَ : لاَ عُذْرَ لَهُمْ ، قَالَ : فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ ، فَأَعْطُوهُمُ الْفِتْنَةَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : *وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ* إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، فَكَتَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ ، فَخَرَجُوا وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِيهِمْ : *ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا ، فَخَرَجُوا ، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ ، ثُمَّ نَجَا مَنْ نَجَا ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ "
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، ( وَالْوَلِيدِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ) ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ : *ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا* " .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي شَأْنِ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ
حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ ، عَنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ يَزِيدَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالاَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ : *مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : *ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بِعَدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بن سعد بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَاسْتَجَارَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو ، فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
{ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتنوا } ، أي : عذبوا كعمار رضي الله تعالى عنه بالولاية والنصر ، و{ ثم }/ لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك ، وقرأ ابن عامر فتنوا بالفتح ، أي : من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلم وهاجر . { ثم جاهدوا وصبروا } ، على الجهاد وما أصابهم من المشاق . { إن ربك من بعدها } ، من بعد الهجرة والجهاد والصبر . { لغفور } ، لما فعلوا قبل . { رحيم } منعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.