غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (110)

101

قال جار الله : معنى : { ثم إن ربك } ، تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه . ومعنى : { إن ربك لهم } ، أنه لهم لا عليهم ، فينصرهم ولا يخذلهم . ويحتمل أن يكون الجار متعلقاً بالخبر على نية التأخير . وتكرير " إن " لطول الكلام .

من قرأ { من بعد ما فتنوا } ، بفتح الفاء مبنياً للفاعل ، فوجهه : أن فتن وافتتن بمعنى واحد ، والمراد : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم ؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد ، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم ، ومعنى " ثم " على هذا التفسير ظاهر . ومن قرأ بضم الفاء مبنياً للمفعول ، فالمراد : أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر . وقال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا ، وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا ، فنزلت الآية فيهم . فمعنى : " ثم " ، تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول ، إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا . وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ، فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه . وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية . ومثله ما روي عن قتادة : أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ، فلما جاءهم ذلك خرجوا ، فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت : { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت :1-2 ] ، فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية . والضمير في قوله : { من بعدها } ، يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر . فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد ، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية ، فبين تعالى أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك ، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به ، فوعده الله المغفرة والرحمة .

/خ128