الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (110)

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة : أن هاجروا فإنا لا نرى أنكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم ، فكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية .

وأخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال : كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول ، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول ، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول ، وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين ، وفيهم نزلت هذه الآية : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق علي ، عن ابن عباس في قوله : { من كفر بالله } الآية ، قال : أخبر الله سبحانه أن : { من كفر بالله من بعد إيمانه } ، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم ، فأما من أكره ، فتكلم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه ، فلا حرج عليه ؛ لأن الله سبحانه إنما يؤاخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .

وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا في سورة النحل : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } ، ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } ، وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له أبو بكر وعمر وعثمان بن عفان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم .

وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس مثله .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا . . . } الآية ، قال : ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة فخرجوا فأدركهم المشركون فردوهم ، فأنزل الله : { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 1-2 ] ، فكتب بهذا أهل المدينة إلى أهل مكة ، فلما جاءهم ذلك تبايعوا على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا . فأنزل الله : { ثم إن ربك للذين هاجروا . . . } الآية .

وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي نحوه .

وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية فيمن كان يفتن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فنزلت فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا . . . } الآية ، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا . فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل .

وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن رضي الله عنه ، «أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما ، فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ فأهوى إلى أذنيه فقال : إني أَصَمّ . فأمر به فقتل . وقال للآخر : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم . فأرسله . . . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " أما صاحبك فمضى على إيمانه ، وأما أنت فأخِذْتَ الرخصة " .

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } ، قال : نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، أحد بني مخزوم ، وكان أخا أبي جهل لأمه ، وكان يضربه سوطاً وراحلته سوطاً .

وأخرج ابن جرير عن أبي إسحق في قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } ، قال : نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد رضي الله عنهم .