البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (110)

ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان ، وحال من أكره ، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن .

قال ابن عطية : وهذه الآية مدنية ، ولا أعلم في ذلك خلافاً .

وقال ابن عباس : نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أنّ الله قد جعل لكم مخرجاً ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل ، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام .

وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا ، فنزلت حينئذ ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم .

وقال ابن إسحاق : نزلت في عمار ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد .

قال ابن عطية : وذكر عمار في هذا غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من باب ممن شرح بالكفر صدراً أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية .

وقال عكرمة والحسن : نزلت في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول : من بعد ما فتنهم الشيطان .

وقال الزمخشري : ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه .

وللذين عند الزمخشري في موضع خبر إن قال : ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم ، لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل : لا عليه ، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور انتهى .

وقوله : منفوعاً اسم مفعول من نفع ، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي .

وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسم مفعول ، فلا يقال منفوع وقفت له عليه في شرحه موجز الرماني .

وقال أبو البقاء : خبر إن الأولى قوله : إن ربك لغفور ، وإن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى .

وإذا كانت إنّ الثانية واسمها تكريراً للتوكيد كما ذكر ، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر إنّ الأولى هو قوله : لغفور ، ويكون للذين متعلقاً بقوله : لغفور ، أو برحيم على الأعمال ، لأنّ إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب .

كما أنك إذا قلت : قام قام زيد ، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى ، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى .

وقيل : لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى .

وهذا ليس بجيد ، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية ، وهو عكس ما تقدم ، ولا يجوز .

وقيل : للذين متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل : أعني للذين ، أي الغفران للذين .

وقرأ الجمهور : فتنوا مبنياً للمفعول أي : بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر .

وقرأ ابن عامر : فتنوا مبنياً للفاعل ، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار .

أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم هم المعذبون أنفسهم ، ويجوز أن يكون عائداً على المشركين أي : من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه .

والضمير في مَن بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي : من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر .

وقال ابن عطية : والضمير في بعدها عائد على الفتنة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح .