ويعقب على أحكام الطهارة ، وعلى ما سبقها من الأحكام بتذكير الذين آمنوا بنعمة الله عليهم بالإيمان ، وبميثاق الله معهم على السمع والطاعة ، وهو الميثاق الذي دخلوا به في الإسلام - كما تقدم - كما يذكرهم تقوى الله ، وعلمه بما تنطوي عليه الصدور :
( واذكروا نعمة الله عليكم ، وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم : سمعنا وأطعنا ، واتقوا الله ، إن الله عليم بذات الصدور ) . .
وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون - كما قدمنا - قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين . إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم ، وفي حياتهم ، وفي مجتمعهم ، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم . ومن ثم كانت الإشارة - مجرد الإشارة - إلى هذه النعمة تكفي ، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة .
كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة ، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها . كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله ، وهو أمر هائل جليل في حسن المؤمن ، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها . .
ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى . إلى إحساس القلب بالله ، ومراقبته في خطراته الخافية :
( واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ) . .
والتعبير( بذات الصدور ) تعبير مصور معبر موح ، نمر به كثيرا في القرآن الكريم . فيحسن أن ننبه إلى مافيه من دقة وجمال وإيحاء . وذات الصدور : أي صاحبة الصدور ، الملازمة لها ، الملاصقة بها . وهي كناية عن المشاعر الخافية ، والخواطر الكامنة ، والأسرار الدفينة . التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة . وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله ، المطلع على ذات الصدور . .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } . .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم ، واذكروا نعمته عليكم في ذلكم ، بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا ، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والردى في نعم غيرها جمة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ قال : النعم : آلاء الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله : وَمِيثاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ فإنه يعني : واذكروا أيضا أيها المؤمنون في نعم الله التي أنعم عليكم ميثاقه الذي واثقكم به ، وهو عهده الذي عاهدكم به .
واختلف أهل التأويل في الميثاق الذي ذكر الله في هذه الاَية ، أيّ مواثيقه عني ؟ فقال بعضهم : عني به ميثاق الله الذي واثق به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له فيما أحبوا وكرهوا ، والعمل بكلّ ما أمرهم الله به ورسوله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وأطَعْنا . . . الاَية ، يعني : حيث بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليه الكتاب ، فقالوا : آمنا بالنبيّ وبالكتاب ، وأقررنا بما في التوراة . فذكّرهم الله ميثاقه الذي أقرّوا به على أنفسهم ، وأمرهم بالوفاء به .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وأطَعْنا فإنه أخذ ميثاقنا ، فقلنا سمعنا وأطعنا على الإيمان والإقرار به وبرسوله .
وقال آخرون : بل عنى به جلّ ثناؤه : ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صلب آدم صلى الله عليه وسلم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ فقالوا : بلى شهدنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَمِيثاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ قال : الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك : قول ابن عباس ، وهو أن معناه : واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام وميثاقه الذي واثقكم به ، يعني : وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشط والمكره ، والعسر واليسر ، إذ قلتم سمعنا ما قلت لنا ، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه ، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له سمعنا وأطعنا ، يقول : ففوا لله أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به ، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به ، وفيما نهاكم عنه ، يف لكم بما ضمن لكم الوفاء به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه من إتمام نعمته عليكم ، وبادخالكم جنته وبانعامكم بالخلود في دار كرامته ، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال : عني به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه ، لأن الله جلّ ثناؤه ذكر بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقه الذي واثق به أهل التوراة بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم فيها ، فقال : وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَني إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْني عَشَرَ نَقِيبا . . . الاَيات بعدها ، منبها بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عدهدهم عليه ، ومعرّفهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه ، وتعزير أنبيائه ورسله ، زاجرا لهم عن نكث عهودهم ، فيحلّ بهم ما أحلّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم ، فكان إذا كان الذي ذكّرهم فوعظهم به ، ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثله ميثاق قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم ، وإنزال الكتاب عليهم واجبا ، أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظير حال الذين وعظوا بهم . وإذا كان ذلك كذلك ، كان بيّنا صحة ما قلنا في ذلك وفساد خلافه .
وأما قوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدُورِ فإنه وعيد من الله جلّ اسمه للمؤمنين الذين أطافوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، وتهديدا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسله وعهدهم الذي عاهدوه فيه ، بأن يضمروا له خلاف ما أبدوا له بألسنتهم . يقول لهم جلّ ثناؤه : واتقوا الله أيها المؤمنون ، فخافوه أن تبدّلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به ، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم : سمعنا وأطعنا ، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم ، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم ، وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك ، فيحلّ بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به ، كالذي حلّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النقم ، وتصيروا في معادكم إلى سخط الله وأليم عقابه .
{ واذكروا نعمة الله عليكم } بالإسلام لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره . { وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } يعني الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، أو ميثاقه ليلة العقبة أو بيعة الرضوان . { واتقوا الله } في إنساء نعمته ونقض ميثاقه . { إن الله عليم بذات الصدور } أي بخفياتها فيجازيكم عليها فضلا عن جليات أعمالكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.