ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها ، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق ، ولا وضاءة هذا الجو الطليق . . وإذا بهم يفاجأون ، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون !
( قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) . .
لقد كان لنا رجاء فيك . كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ، أو لهذا جميعه . ولكن هذا الرجاء قد خاب . .
( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) . .
إنها للقاصمة ! فكل شيء يا صالح إلا هذا ! وما كنا لنتوقع أن تقولها ! فيا لخيبة الرجاء فيك ! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه . شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول :
( وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) . .
وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه ؛ بل يستنكرون ما هو واجب وحق ، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده . لماذا ؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير . ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة !
وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين . وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء !
وهكذا يتبين مرة ثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد ، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل وتذكرنا قولة ثمود لصالح :
( قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) . .
تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد [ ص ] وأمانته . فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح ، وقالوا : ساحر . وقالوا : مفتر . ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه !
إنها طبيعة واحدة ، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هََذَا أَتَنْهَانَآ أَن نّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنّنَا لَفِي شَكّ مّمّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } .
يقول تعالى ذكره : قالت ثمود لصالح نبيهم : يا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فينا مَرْجُوّا : أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قَبْلَ هَذَا القول الذي قلته لنا من أنه مالنا من إله غير الله . أتَنْهانا أنْ نَعْبُد ما يَعْبُدُ آباؤُنا يقول : أتنهانا أن نعبد الاَلهة التي كانت آباؤنا تعبد ، وَإنّنا لَفِي شَكّ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ مُرِيبٍ يعنون أنهم لا يعلمون صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله ، وأن الألوهة لا تكون إلا له خالصا . وقوله مُرِيبٍ أي يوجب التهمة من أَرَبْته فأنا أَرِيُبه إرابة ، إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة ، ومنه قول الهُذَليّ :
كُنتُ إذا أتَوْتُهُ منْ غَيْبِ *** يَشُمّ عِطْفي وَيُبزّ ثَوْبِي
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت ثمود لصالح نبيهم:"يا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فينا مَرْجُوّا": أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قَبْلَ هَذَا القول الذي قلته لنا من أنه مالنا من إله غير الله.
"أتَنْهانا أنْ نَعْبُد ما يَعْبُدُ آباؤُنا" يقول: أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبد.
"وَإنّنا لَفِي شَكّ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ مُرِيبٍ "يعنون أنهم لا يعلمون صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله، وأن الألوهة لا تكون إلا له خالصا. وقوله مُرِيبٍ أي يوجب التهمة من أَرَبْته فأنا أَرِيبه إرابة، إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة،...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) أي ما كنا نعرف أن آباءنا عندك سفهاء من قبل هذا، فالساعة تسفه أحلامهم في عبادتهم الأصنام.
(وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أو كانوا يذكرون هذا له احتجاجا لهم عليه في ما دعاهم إلى توحيد الله وعبادتهم إياه، فقالوا: إنا على يقين أن آباءنا قد عبدوا هذه الأصنام (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي يريبنا أمرك ودعاؤك لنا إلى هذا الدين. قد قيل هذا، ولكنا لا نعلم ما كانوا يرجون فيه، وما المعنى الذي قالوا له: (قد كنت فينا مرجوا) سوى أنا نعلم أنه كان مرجوا فيهم في العقل والدين والعلم والبصيرة ونحوه، فكان مرجوا فيهم بالأشياء التي ذكرنا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في هذه الآية حكاية ما أجاب به قوم صالح له حين قالوا له ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا، ومعناه قد كنا نرجو منك الخير، ونطمع فيه من جهتك قبل هذا لماكنت عليه من الأحوال الجميلة، فالآن يئسنا منك. والرجاء: تعلق النفس بمجيئ الخير على جهة الظن، ومثله الأمل والطمع.
وقوله "أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا "معناه تحظر علينا عبادة كان يعبدها آباؤنا. وقوله "إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب" معناه إن الذي أتيتنا به لا يوجب العلم، بل يوجب الشك، فنحن في شك مما جئتنا به. والريبة هي الشك إلا أن مع الريبة تهمة للمعنى ليست في نقيضه، والشك قد يعتدل فيه النقيضان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِينَا} فيما بيننا {مَرْجُوّا} كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك... الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{مرجواً} معناه: مسوداً؛ نؤمل فيك أن تكون سيداً سادّاً مسدّ الأكابر، ثم قرروه على جهة التوبيخ في زعمهم بقولهم: {أتنهانا}...
ثم يجيء قولهم: {أتنهانا} على جهة التوعد والاستشناع لهذه المقالة منه. و {ما يعبد آباؤنا} يريدون به الأوثان والأصنام، ثم أوجبوا أنهم في شك من أمره وأقاويله، وأن ذلك الشك يرتابون به زائداً إلى مرتبته من الشك... ولا فرق بين هذه الحال وبين حالة التصميم على الكفر.
و {مريب} معناه: ملبس متَّهَم...
ثم بين تعالى أن صالحا عليه السلام لما قرر هذه الدلائل {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} وفيه وجوه:
الأول: أنه لما كان رجلا قوي العقل قوي الخاطر وكان من قبيلتهم قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم ويقرر طريقتهم لأنه متى حدث رجل فاضل في قوم طمعوا فيه من هذا الوجه.
الثاني: قال بعضهم المراد أنك كنت تعطف على فقرائنا وتعين ضعفاءنا وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأنصار والأحباب، فكيف أظهرت العداوة والبغضة؟
ثم إنهم أضافوا إلى هذا الكلام التعجب الشديد من قوله: {فقالوا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب}.
ثم قالوا: {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} والشك هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات، والمريب هو الذي يظن به السوء فقوله: {وإننا لفي شك} يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله. وقوله: {مريب} يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دعاهم إلى الحق ونصب لهم عليه من الأدلة ما هم به معترفون وذكرهم نعمه مومئاً إلى التحذير من نقمه، وسهل لهم طريق الوصول إليه، ما كان جوابهم إلا أن سلخوه من طور البشرية لمحض التقليد، فلذلك استأنف الإخبار عن جوابهم بقوله: {قالوا} أي ثمود {يا صالح} نادوه باسمه قلة أدب منهم وجفاء {قد كنت فينا} أي فيما بينا إذا تذاكرنا أمرك {مرجواً} أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا: {قبل هذا} أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد؛ ثم بينوا ما أوجب سقوطه عندهم بقولهم منكرين إنكار محترق {أتنهانا} أي مطلق نهي {أن نعبد} أي دائماً {ما يعبد آباؤنا} وعبروا بصيغة المضارع تصويراً للحال كأن آباءهم موجودون فلا تمكن مخالفتهم إجلالاً لهم، فأجلوا من يرونه سبباً قريباً في وجودهم ولم يهابوا من أوجدهم وآباءهم أولاً من الأرض وثانياً من النطف، ثم خولهم فيما هم فيه، ثم فزعوا -في أصل الدين بعد ذكر الحامل لهم على الكفر المانع لهم من تركه- إلى البهت بأن ما يوجب القطع لكل عاقل من آيته الباهرة لم يؤثر عندهم إلا ما هو دون الظن في ترك إجابته، فقالوا مؤكدين لأن شكهم حقيق بأن ينكر لأنه في أمر واضح جداً لا يحتمل الشك أصلاً: {وإننا لفي شك} و زادوا التأكيد بالنون واللام وبالإشارة بالظرف إلى إحاطة الشك بهم {مما} ولما كان الداعي واحداً وهو صالح عليه السلام لم يلحق بالفعل غير نون واحدة هي ضميرهم بخلاف ما في سورة إبراهيم عليه السلام فلذلك قالوا: {تدعونا إليه} من عبادة الله وحده {مريب} أي موقع في الريبة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} أي قد كنت موضع رجائنا لمهمات أمورنا لما لك من المكانة في بيتك وفي صفاتك الشخصية من العقل والرأي قبل هذا الذي تدعونا إليه من تبديل ديننا بما تزعم من بطلانه فانقطع رجاؤنا منك {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} الاستفهام للإنكار والتعجب أي أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا واستمر فيما لا ينكره ولا يستقبحه أحد؟ فالآباء يشمل الغابرين والحاضرين، ولو قالوا ما عبد آباؤنا لما أفاد هذا، فلا حاجة إلى القول بأن التعبير بالمضارع حكاية مصورة للحال الماضية في صورة الحاضرة. {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} أي وإنا لواقعون في شك مما تدعونا من عبادة الله وحده لا نتوسل إليه بأحد من أوليائه وأحبائه الشفعاء لنا عنده المقربين لنا إليه، ولا بتعظيم ما وضعه آباؤنا لهم من الصور والتماثيل المذكرة بهم، لا ندري مرادك وغرضك منه، فإنه موجب للريب وسوء الظن...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} أي: قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع، وهذا شهادة منهم، لنبيهم صالح، أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأنه من خيار قومه. ولكنه، لما جاءهم بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة، قالوا هذه المقالة، التي مضمونها، أنك [قد] كنت كاملا، والآن أخلفت ظننا فيك، وصرت بحالة لا يرجى منك خير. وذنبه، ما قالوه عنه، وهو قولهم: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح، كيف قدح في عقولهم، وعقول آبائهم الضالين، وكيف ينهاهم عن عبادة، من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئا من الأحجار، والأشجار ونحوها. وأمرهم بإخلاص الدين لله ربهم، الذي لم تزل نعمه عليهم تترى، وإحسانه عليهم دائما ينزل، الذي ما بهم من نعمة، إلا منه، ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو. {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي: ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه، شكا مؤثرا في قلوبنا الريب، وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه، لاتبعوه، وهم كذبة في ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق، ولا وضاءة هذا الجو الطليق.. وإذا بهم يفاجأون، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون! (قالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب).. لقد كان لنا رجاء فيك. كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك، أو لهذا جميعه. ولكن هذا الرجاء قد خاب.. (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا).. إنها للقاصمة! فكل شيء يا صالح إلا هذا! وما كنا لنتوقع أن تقولها! فيا لخيبة الرجاء فيك! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه. شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول: (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب).. وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه؛ بل يستنكرون ما هو واجب وحق، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده. لماذا؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير. ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة! وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين. وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء! وهكذا يتبين مرة ثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل وتذكرنا قولة ثمود لصالح: (قد كنت فينا مرجوا قبل هذا).. تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته. فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح، وقالوا: ساحر. وقالوا: مفتر. ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه! إنها طبيعة واحدة، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة المَلأى إرشاداً وهدياً. وهو جواب مُلئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة. وافتتاح الكلام بالنّداء لقصد التوبيخ أو الملام والتّنبيه، كما تقدّم في قوله: {قالوا يا هود ما جئتنا ببيّنة} [هود: 53]. وقرينة التّوبيخ هنا أظهر، وهي قولهم: {قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} فإنّه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف... وحذف متعلّق {مرجواً} لدلالة فعل الرجاء على أنّه ترقب الخير، أي مرجواً للخير، أي والآن وقع اليأس من خيرك. وهذا يفهم منه أنّهم يَعدّون ما دعاهم إليه شرّاً... وعبّروا عن أصنامهم بالموصول لِمَا في الصّلة من الدّلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداءً بآبائهم لأنّهم أسوة لهم، وذلك ممّا يزيد الإنكار اتّجاهاً في اعتقادهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان صالح معروفا قبل الرسالة بالكمال الإنساني، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم معروفا بأنه الصادق الأمين {مرجوا} مرجوا خيره غير مذموم، وقولهم: {قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} أي كنت فينا مرجو الخير محمود الخصال والفعال، وكأنهم يحسبون أنه ينبغي أن يفعل ما هو على هواهم ويردد مقالاتهم ويعبد ما يعبدون. ويثيرون العجب فيقولون: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} فهم يستنكرون دعوته، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وهو أنه فعلا ينهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم، وليست عبادة آلهتهم حجة مسوغة لهم؛ فآباؤهم كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} فالشك هو عدم التصديق بما يقول والتظنن في صدقه، فهم يشكون فيما يدعو إليه من التوحيد وهجر عبادة الأوثان لأنها أحجار لا تضر ولا تنفع، وإن هذا الشك يوقعهم في الريب، أي أن شكهم في صدق ما يدعوهم إليه يوقعهم في حال الريب فلا يؤمنون بقوله ويكونون في حال من الاضطراب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ يا صالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} فقد كانت الآمال معقودةً عليك في قيادة المجتمع نحو الخير لا نحو الشرّ، {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} من الأوثان التي قدّسها الاباء وعبدوها أجيالاً؟ ألا تسيء بذلك إلى ذكرى الاباء، وتتمرّد على قداستهم؟ فهل يمكن أن نحكم عليهم بالجهل وتقديس الخرافة في ما عبدوه كما تقول؟ وهل نستطيع الادّعاء بأننا نفهم أكثر مما يفهمون، ونعرف أكثر مما يعرفون، وهم أصحاب التجربة والفكر والسبق في التاريخ؟ وهل يتعلم الجيل الحاضر، إلا من الأجيال الماضية؟ هكذا كانت كل هذه الأوهام تتسابق إلى أخيلتهم في ما يعتبرونه أساساً لتقييم الفكر، أو تقديس التاريخ، أو لتمايز المجتمعات. {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فقد لا تكون المسألة بالنسبة إليك مجرد فكرة تريد إثارتها أمامنا أو دعوتنا إليها، بل قد تكون هناك خلفيّاتٌ وأهدافٌ مشبوهةٌ تتّصل بطموحاتك ومصالحك، مما قد يتعارض مع أوضاعنا وطموحاتنا ومصالحنا... ولهذا فإننا ننظر إلى المسألة نظرة اتهام منشؤها سوء الظن بك، وبما تضمره من سوء للمجتمع، وهكذا يبدو أن هؤلاء القوم لم يرغبوا في مناقشة المسألة من ناحية المضمون على أساس احتمال الصواب والخطأ فيها، لأن رفضهم للدعوة حاسم، بل أرادوا مناقشتها من ناحية الدوافع الذاتية الكامنة خلفها، والله العالم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبيّ الله «صالح (عليه السلام)» إزاء منطقه الحي الداعي إلى الحق. لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النّبي «صالح» أو على الأقل للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس... فقالوا: (يا صالح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا) وكنّا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في أُمورنا ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا، لكن رجاءنا فيك ذهب أدراج الرياح، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان وهو منهج أسلافنا ومفخرة قومنا، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار وسخرت من عقولنا (أتنهانا عمّا كان يعبد آباؤنا) والحقيقة أننا نشكُّ في دعوتك للواحد الأحد (وإننا لفي شك ممّا تدعونا إليه مريب). نجد هنا أن القوم الضّالين يلتجؤون تحت غطاء الأسلاف والآباء الذين تحيط بهم هالة من القدسية لتوجيه أخطائهم وأعمالهم وأفكارهم غير الصحيحة، وهو ذلك المنطق القديم الذي كان يتذرع به المنحرفون وما زالوا يتذرعون به في عصر الذّرة والفضاء أيضاً.