ثم يلوح ببعض ما قدر الله للمؤمنين ، مخالفا لظن المخلفين . بأسلوب يوحي بأنه قريب :
( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها : ذرونا نتبعكم . يريدون أن يبدلوا كلام الله . قل : لن تتبعونا . كذلكم قال الله من قبل . فسيقولون : بل تحسدوننا . بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ) . .
أغلب المفسرين يرون أنها إشارة إلى فتح خيبر . وقد يكون هذا . ولكن النص يظل له إيحاؤه ولو لم يكن نصا في خيبر . فهو يوحي بأن المسلمين سيفتح عليهم فتح قريب يسير . وأن هؤلاء المخلفين سيدركون هذا ، فيقولون : ( ذرونا نتبعكم ) . .
ولعل الذي جعل المفسرين يخصصون خيبر ، أنها كانت بعد قليل من صلح الحديبية . إذ كانت في المحرم من سنة سبع . بعد أقل من شهرين من صلح الحديبية . وأنها كانت وافرة الغنائم . وكانت حصون خيبر آخر ما بقي لليهود في الجزيرة من مراكز قوية غنية . وكان قد لجأ إليها بعض بني النضير وبني قريظة ممن أجلوا عن الجزيرة من قبل .
وتتواتر أقوال المفسرين أن الله وعد أصحاب البيعة في الحديبية أن تكون مغانم خيبر لهم لا يشركهم فيها أحد . ولم أجد في هذا نصا . ولعلهم يأخذون هذا مما وقع فعلا . فقد جعلها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أصحاب الحديبية ، ولم يأخذ معه أحدا غيرهم .
وعلى أية حال فقد أمر الله نبيه أن يرد المخلفين من الأعراب إذا عرضوا الخروج للغنائم الميسرة القريبة . وقرر أن خروجهم مخالف لأمر الله وأخبر نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أنهم سيقولون إذا منعوا من الخروج : ( بل تحسدوننا ) . . فتمنعوننا من الخروج لتحرمونا من الغنيمة . ثم قرر أن قولهم هذا ناشيء عن قلة فقههم لحكمة الله وتقديره . فجزاء المتخلفين الطامعين أن يحرموا ، وجزاء الطائعين المتجردين أن يعطوا من فضل الله ، وأن يختصوا بالمغنم حين يقدره الله ، جزاء اختصاصهم بالطاعة والإقدام ، يوم كانوا لا يتوقعون إلا الشدة في الجهاد .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَيَقُولُ الْمُخَلّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىَ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلاَمَ اللّهِ قُل لّن تَتّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : سيقول يا محمد المخلفون في أهليهم عن صحبتك إذا سرت معتمرا تريد بيت الله الحرام ، إذا انطلقت أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة لِتَأخُذُوها وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من غنائم خيبر ذَرُوَنا نَتّبِعْكُم إلى خيبر ، فشهد معك قتال أهلها يُرِيدُونَ أنْ يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ يقول : يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم ، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم على صلح ، ولم يصيبوا منهم شيئا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : رجع ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة ، فوعده الله مغانم كثيرة ، فعجلت له خيبر ، فقال المخلّفون ذَرُونا نَتّبِعْكُم يُرِيُدونَ أن يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ وهي المغانم ليأخذوها ، التي قال الله جلّ ثناؤه : إذَا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغانِمَ لِتأْخُذُوها وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أصحابه ، عن مقسم قال : لما وعدهم الله أن يفتح عليهم خيبر ، وكان الله قد وعدها من شهد الحديبية لم يعط أحدا غيرهم منها شيئا ، فلما علم المنافقون أنها الغنيمة قالوا : ذَرُونا نَتّبِعْكُم يُرِيُدونَ أن يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ يقول : ما وعدهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَيَقُولُ المُخَلّفُونَ إذَا انْطَلَقْتُمْ . . . . الآية ، وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية . ذُكر لنا أن المشركين لما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية عن المسجد الحرام والهدي ، قال المقداد : يا نبيّ الله ، إنا والله لا نقول كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فلما سمع ذلك أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تبايعوا على ما قال فلما رأى ذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا ، ورجع من عامة ذلك .
وقال آخرون : بل عنى بقوله : يُرِيدُونَ أنْ يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ إرادتهم الخروج مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في غزوه ، وقد قال الله تبارك وتعالى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِي عَدُوّا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَيَقُولُ المُخَلّفُونَ إذَا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغانِمَ لِتأْخُذُوها ذَرُونا نَتّبِعْكُمْ . . . الآية ، قال الله عزّ وجلّ حين رجع من غزوه ، فَاسْتَأذنَوُكَ للُخُرُوجِ فقل لَنْ تَخْرُجُوا مَعيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّا . . . الآية يريدون أن يبدّلوا كلام الله : أرادوا أن يغيروا كلام الله الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ويخرجوا معه ، وأبى الله ذلك عليهم ونبيه صلى الله عليه وسلم .
وهذا الذي قاله ابن زيد قول لا وجه له ، لأن قول الله عزّ وجلّ فاسْتأْذَنُوكَ للْخُرُوج ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا ولَنْ تُقاتِلُوا مَعيَ عَدُوّا إنما نزَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنْصَرَفَه من تَبوك ، وعُنِي به الذين تخلّفوا عنه حين توجه إلى تبوك لغزو الروم ، ولا اختلاف بين أهل العلم بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة أيضا ، فكيف يجوز أن يكون الأمر على ما وصفنا معنيا بقول الله : يُرِيُدونَ أن يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ وهو خبر عن المتخلفين عن المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ شخص معتمرا يريد البيت ، فصدّه المشركون عن البيت ، الذين تخلّفوا عنه في غزوة تبوك ، وغزوة تبوك لم تكن كانت يوم نزلت هذه الآية ، ولا كان أُوحِيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : فاسْتأْذَنُوكَ للْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعي أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّا .
فإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول في ذلك : ما قاله مجاهد وقتادة على ما قد بيّنا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يُرِيُدونَ أن يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفة كَلاَمَ الله على وجه المصدر ، بإثبات الألف . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة «كَلِمَ اللّهِ » بغير ألف ، بمعنى جمع كلمة ، وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وإن كنتُ إلى قراءته بالألف أَمْيل .
وقوله : قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المخلفين عن المسير معك يا محمد : لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم لقتالهم كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبلُ يقول : هكذا قال الله لنا من قبل مَرْجِعنا إليكم ، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها ، فليس لكم أن تَتّبعونا إلى خيبر ، لأن غنيمتها لغيركم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ أي إنما جعلت الغنيمة لأهل الجهاد ، وإنما كانت غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب .
وقوله : فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم ، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدونَنا أن نصيب معكم غنائم .
وقوله : بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إلاّ قَلِيلاً يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه : ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم إنما تمنعونهم من اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدوّ مغنما ، بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وعليهم من أمر الدين إلا قليلاً يسيرا ، ولو عقلوا ذلك ما قالوا لرسول الله والمؤمنين به ، وقد أخبروهم عن الله تعالى ذكره أنه حرمهم غنائم خيبر ، إنما تمنعوننا من صحبتكم إليها لأنكم تحسدوننا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سيقول المخلفون} عن الحديبية مخافة القتل {إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها} يعني غنائم خيبر {ذرونا نتبعكم} إلى خيبر، وكان الله تعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه عن أن يسير معه أحد من المتخلفين، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية يريد خيبر، قال المخلفون: ذرونا نتبعكم فنصيب معكم من الغنائم، فقال الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} يعني أن يغيروا كلام الله الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ألا يسير معه أحد منهم {قل لن تتبعونا كذلكم} يعني هكذا {قال الله} بالحديبية {من قبل} خيبر أن لا تتبعونا {فسيقولون} للمؤمنين إن الله لم ينهكم {بل تحسدوننا} بل منعكم الحسد أن نصيب معكم الغنائم. ثم قال: {بل كانوا لا يفقهون} النهي من الله {إلا قليلا} آية منهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سيقول يا محمد المخلفون في أهليهم عن صحبتك إذا سرت معتمرا تريد بيت الله الحرام: إذا انطلقت أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة لِتَأخُذُوها، وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من غنائم خيبر" ذَرُوَنا نَتّبِعْكُم "إلى خيبر، فنشهد معك قتال أهلها.
"يُرِيدُونَ أنْ يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ" يقول: يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئا...
عن مجاهد، قال: رجع، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، فوعده الله مغانم كثيرة، فعجلت له خيبر، فقال المخلّفون ذَرُونا نَتّبِعْكُم يُرِيُدونَ أن يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ وهي المغانم ليأخذوها، التي قال الله جلّ ثناؤه: "إذَا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغانِمَ لِتأْخُذُوها" وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد...
وقوله: "قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المخلفين عن المسير معك يا محمد: لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم لقتالهم.
"كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبلُ" يقول: هكذا قال الله لنا من قبل مَرْجِعنا إليكم، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تَتّبعونا إلى خيبر، لأن غنيمتها لغيركم...
وقوله: "فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا" أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم...
وقوله: "بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إلاّ قَلِيلاً" يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم إنما تمنعونهم من اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدوّ مغنما، بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وعليهم من أمر الدين إلا قليلاً يسيرا، ولو عقلوا ذلك ما قالوا لرسول الله والمؤمنين به، وقد أخبروهم عن الله تعالى ذكره أنه حرمهم غنائم خيبر، إنما تمنعوننا من صحبتكم إليها لأنكم تحسدوننا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يريدون أن يبدّلوا كلام الله} لأن البِشارة بفتح خيبر وجعله غنيمة لمن شهِد الحديبيّة. فأما من تخلّف عنها فليس له في ذلك من نصيب. فأخبر الله تعالى أنهم يريدون أن يبدّلوا ما وعد الله تعالى المؤمنين الذين شهدوا الحديبيّة فتح خيبر خاصة بأن يُشركوهم فيها، وفي ذلك تبديل ما وعد؛ إذ لم يشهدوا هم الحديبيّة، والبِشارة بالفتح لمن شهِدها. فأما من تخلّف عنها فلا... وقوله تعالى: {فسيقولون بل تحسُدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} كانوا يقيسون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، لأنهم إذا أصابوا شيئا؛ أعني المنافقين، كانوا يحسدون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا ألا يكون لهم في ذلك نصيب ولا حظّ حسدا منهم لهم. فلما منعهم المؤمنون عن الخروج إلى خيبر، وقالوا: إن الله نهاكم عن أن تخرُجوا معنا، وقد بُشّروا بالفتح، قالوا عند ذلك: {بل تحسُدوننا} في إصابة تلك الغنائم؛ لم ينهنا الله تعالى عن الخروج معكم؛ قاسوا المؤمنين بأنفسهم {بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا}. قال بعضهم القصة: هي الاستدلال بما عرفوا، وشهدوه، على الذي لم يعلموه، وغاب عنهم؛ يخبر أن هؤلاء لا يعرفون الاستدلال. وقال بعضهم: القصة: هي معرفة الشيء بنظيره الدال على غيره، والله أعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
إنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم. فإن الله تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعا وقدرا؛ ولهذا قال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سيقول} أي بوعد لا خلف فيه. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا مطمع لأحد في أن يظفر منه بشيء من خلاف لأمر الله، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولاً من خطابه وقال: {المخلفون} أي لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه صلى الله عليه وسلم لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم {إذا انطلقتم} بتمكين الله لكم {إلى مغانم}. ولما أفهم اللفظ الأخذ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها، صرح بالأول رفعاً للمجاز فقال: {لتأخذوها} أي من خيبر {ذرونا} أي على أي حالة شئتم من الأحوال الدنية {نتبعكم} ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم، علل تعالى قولهم بقوله: {يريدون} أي بذهابكم معكم {أن يبدلوا كلام الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في الإخبار بلعنهم وإبارتهم...
{قل} أي يا حبيبي لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم، قولاً مؤكداً: {لن تتبعونا} وإن اجتهدتم في ذلك، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي...
{كذلكم} أي مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة {قال الله} أي الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاءوا والعقاب لمن شاءوا {من قبل} هذا الوقت، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله، فإنه قضى أن لا يحضر "خيبر " المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية...
{فسيقولون}: ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله {بل} إنما ذلكم لأنكم {تحسدوننا} فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء. ولما كان التقدير: وليس الأمر كما زعموا، رتب عليه قوله: {بل كانوا} أي جبلة وطبعاً {لا يفقهون} أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر {إلا قليلاً} في أمر دنياهم، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أغلب المفسرين يرون أنها إشارة إلى فتح خيبر. وقد يكون هذا. ولكن النص يظل له إيحاؤه ولو لم يكن نصا في خيبر. فهو يوحي بأن المسلمين سيفتح عليهم فتح قريب يسير. وأن هؤلاء المخلفين سيدركون هذا، فيقولون: (ذرونا نتبعكم).. ولعل الذي جعل المفسرين يخصصون خيبر، أنها كانت بعد قليل من صلح الحديبية. إذ كانت في المحرم من سنة سبع. بعد أقل من شهرين من صلح الحديبية. وأنها كانت وافرة الغنائم. وكانت حصون خيبر آخر ما بقي لليهود في الجزيرة من مراكز قوية غنية. وكان قد لجأ إليها بعض بني النضير وبني قريظة ممن أجلوا عن الجزيرة من قبل. وتتواتر أقوال المفسرين أن الله وعد أصحاب البيعة في الحديبية أن تكون مغانم خيبر لهم لا يشركهم فيها أحد. ولم أجد في هذا نصا. ولعلهم يأخذون هذا مما وقع فعلا. فقد جعلها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في أصحاب الحديبية، ولم يأخذ معه أحدا غيرهم. وعلى أية حال فقد أمر الله نبيه أن يرد المخلفين من الأعراب إذا عرضوا الخروج للغنائم الميسرة القريبة. وقرر أن خروجهم مخالف لأمر الله وأخبر نبيه [صلى الله عليه وسلم] أنهم سيقولون إذا منعوا من الخروج: (بل تحسدوننا).. فتمنعوننا من الخروج لتحرمونا من الغنيمة. ثم قرر أن قولهم هذا ناشئ عن قلة فقههم لحكمة الله وتقديره. فجزاء المتخلفين الطامعين أن يحرموا، وجزاء الطائعين المتجردين أن يعطوا من فضل الله، وأن يختصوا بالمغنم حين يقدره الله، جزاء اختصاصهم بالطاعة والإقدام، يوم كانوا لا يتوقعون إلا الشدة في الجهاد.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
والآيتان كالآيات السابقة لا تخلوان هما الأخريان مع خصوصيتهما الزمنية والموضوعية من صورة يتكرر ظهورها من فئات من الناس في كل ظرف؛ حيث يبتعدون عن الخطر، ويتوارون وقت الشدة والنضال ويعتذرون بالأعذار الكاذبة، ثم لا يخجلون من المسارعة حين الأمن والسلامة إلى المطالبة بالغنم دون الغرم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم يقول رداً على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفُرص (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ثمّ يضيف قائلاً للنبي: (قل لن تتبعونا). وليس هذا هو كلامي بل (كذلكم قال الله من قبل) وأخبرنا عن مستقبلكم أيضاً. إنّ أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصّة بأهل الحديبيّة ولن يشاركهم في ذلك أحد. لكنّ هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النبيّ ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك: (فسيقولون بل تحسدوننا). وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب. وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول: (بل كانوا لا يفقهون إلاّ قليلاً). أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم، فالجهل ملازم لهم أبداً، جهلهم بالله سبحانه وعدم معرفة مقام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها، فهي زائلة لا محالة!. صحيح أنّهم أذكياء في المسائل المادية والمنافع الشخصية، ولكن أي جهل أعظم من أن يبيع الإنسان جميع كيانه وكلّ شيء منه بالثروة! وأخيراً وطبقاً لما نقلته التواريخ فإنّ النّبي الأكرم وزّع غنائم خيبر على أهل الحديبيّة فحسب...