( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . قال : إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرُ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ؟ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب : يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) . .
إنه المشهد السابع في القصة - مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر - ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم ؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم . . إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه ؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى - عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين - الذي أهلك عدوهم ؛ وشق لهم البحر ؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون . . إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها ؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين ، عاكفين على أصنام لهم ، مستغرقين في طقوسهم الوثنية ؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد ، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد !
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) !
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام ! ولكنها لاتصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية . وطبيعة بني إسرائيل - كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات - طبيعة مخلخلة العزيمة ، ضعيفة الروح ، ما تكاد تهتدي حتى تضل ، وما تكاد ترتفع حتى تنحط ، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس . . ذلك إلى غلظ في الكبد ، وتصلب عن الحق ، وقساوة في الحس والشعور ! وها هم أولاء على طبيعتهم تلك ، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى - عليه السلام - بالتوحيد - فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر - بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين ! وهؤلاء كانوا وثنيين ، وباسم هذه الوثنية استذلوهم - حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم : ( أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ ) ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم : رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه . . آلهة ! ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة . . ولكنما هي إسرائيل ! . .
ويغضب موسى - عليه السلام - غضبة رسول رب العالمين ، لرب العالمين - يغضب لربه - سبحانه - ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه ! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب :
ولم يقل تجهلون ماذا ؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل . . الجهل من الجهالة ضد المعرفة ، والجهل من الحماقة ضد العقل ! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة ؛ وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد ؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق . .
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر ؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر . فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس ، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر - وفق المنهج الصحيح - وما يغفل عن ذلك كله ، أو يعرض عن ذلك كله ، إلا الحمقى والجهال . ولو ادعوا " العلم " كما يدعيه الكثيرون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيَ إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىَ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىَ أَصْنَامٍ لّهُمْ قَالُواْ يَمُوسَىَ اجْعَلْ لّنَآ إِلََهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد الاَيات التي أريناهموها والعبر التي عاينوها على يدي نبيّ الله موسى ، فلم تزجرهم تلك الاَيات ولم تعظهم تلك العبر والبينات حتى قالوا مع معاينتهم من الحجج ما يحقّ أن يذكر معها البهائم ، إذ مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، يقومون على مثل لهم يعبدونها من دون الله ، اجعل لنا يا موسى إلها ، يقول : مثالاً نعبده وصنما نتخذه إلها ، كما لهؤلاء القوم أصنام يعبدونها ، ولا تنبغي العبادة لشيء سوى الله الواحد القهار . وقال موسى صلوات الله عليه : إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجب حقه عليكم ، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السموات والأرض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج : وَجاوَزْنا بِبَنِي إسْرَائِيلَ البَحْرَ فأتَوْا على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أصْنامٍ لَهُمْ قال ابن جريج : على أصنام لهم ، قال : تماثيل بقر ، فلما كان عجل السامريّ شبه لهم أنه من تلك البقر ، فذلك كان أوّل شأن العجل قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إلَها كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قال إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ .
وقيل : إن القوم الذين كانوا عكوفا على أصنام لهم ، الذين ذكرهم الله في هذه الاَية ، قوم كانوا من لخم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا بشر بن عمرو ، قال : حدثنا العباس بن المفضل ، عن أبي العوّام ، عن قتادة : فَأتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أصْنامٍ لَهُمْ قال : على لخم ، وقيل إنهم كانوا من الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم .
وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري أن أبا واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل حنين ، فمررنا بِسْدرَة ، قلت : يا نبيّ الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اللّهُ أكْبَرُ هَذَا كمَا قالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : اجْعَلْ لَنا إلَها كمَا لَهمْ آلهَةٌ ، إنّكُمْ سَترْكَبُونَ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن سنان ابن أبي سنان ، عن واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا نبيّ الله اجعل لنا هذه ذات أنواط ، فذكر نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سنان ابن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا ابن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سنان بن أبي سنان الديلي ، عن أبي واقد الليثي : أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، قال : وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط قال : «قُلْتُمْ وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما قالَ قَوْمُ مِوسَى : اجْعَلْ لَنا إلَها كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أنّها السّنَنُ لَترْكَبُنّ سُننَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.