وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى - صفحة استخلاف المستضعفين - ذلك أن استخلاف بني إسرائيل - في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد - لم يكن في مصر ، ولم يكن في مكان فرعون وآله . إنما كان في أرض الشام ، وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون - بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى - ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث ، ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين :
( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " . . . " وتمت كلمة ربك السنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون ) . .
على أننا نحن البشر - الفانين المقيدين بالزمان - إنما نقول " قبل " و " بعد " لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها ! لذلك نقول : إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون ، كان متأخراً عن حادث الإغراق . . ذلك إدراكنا البشري . . فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما " قبل " عنده وما " بعد " ؟ ! والصفحة كلها معروضة له سواء ، مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان . . ولله المثل الأعلى . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . .
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب ؛ وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر . . وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون ، وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة ، وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان ، وما كانوا يعرشون من كروم وثمار . . إذا هذا كله حطام ، في ومضة عين ، أو في بضع كلمات قصار !
مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة ، المطاردة من الشرك وأهله ؛ ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته ، ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض ، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة - بما صبروا - لينظر كيف يعملون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الْحُسْنَىَ عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم ، فيذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، ويستخدمونهم تسخيرا واستعبادا من بني إسرائيل ، مشارق الأرض الشأم ، وذلك ما يلي الشرق منها ، ومغاربها التي باركنا فيها ، يقول : التي جعلنا فيها الخير ثابتا دائما لأهلها . وإنما قال جلّ ثناؤه : وأوْرَثْنا لأنه أورث ذلك بني إسرائيل ، بمهلك من كان فيها من العمالقة .
وبمثل الذي قلنا في قوله : مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبَها قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن إسرائيل ، عن فُرات القزّاز ، عن الحسن ، في قوله : وأوْرَثَنا القَوْمَ الّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها التي باركْنا فِيها قال : الشأم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن فُرات القزاز ، قال : سمعت الحسن يقول ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن فُرات القزاز ، عن الحسن : الأرض التي باركنا فيها ، قال : الشأم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأوْرَثْنا القَوْمَ الّذِينَ كانُوا يُستَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها التي باركْنا فِيها هي أرض الشأم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبَها التي باركْنا فيها قال : التي بارك فَيها : الشأم .
وكان بعض أهل العربية يزعم أن مشارق الأرض ومغاربها نصب على المحلّ ، يعني : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن قوله : وأوْرَثنا إنما وقع على قوله : التي باركْنا فِيها وذلك قول لا معنى له ، لأن بني إسرائيل لم يكن يستضعفهم أيام فرعون غير فرعون وقومه ، ولم يكن له سلطان إلاّ بمصر ، فغير جائز والأمر كذلك أن يقال : الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها .
فإن قال قائل : فإن معناه : في مشارق أرض مصر ومغاربها فإن ذلك بعيد من المفهوم في الخطاب : مع خروجه عن أقوال أهل التأويل والعلماء بالتفسير .
وأما قوله : وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الحُسْنَى فإنه يقول : وفي وعد الله الذي وعد بني إسرائيل بتمامه ، على ما وعدهم من تمكينهم في الأرض ، ونصره إياهم على عدوّهم فرعونَ . وكلمته الحسنى قوله جلّ ثناؤه : ونُريدُ أنْ نَمُنّ على الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّةً وَنجْعَلَهُمُ الوَارِثينَ ونُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الحُسْنَى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ قال : ظهور قوم موسى على فرعون . و «تمكين الله لهم في الأرض » : وما ورّثهم منها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
وأما قوله : وَدَمّرْنَا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فإنه يقول : وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع . وما كانُوا يَعْرِشُونَ يقول : وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور ، وأخرجناهم من ذلك كله ، وخرّبنا جميع ذلك . وقد بيّنا معنى التعريش فيما مضى بشواهده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانُوا يَعْرِشُونَ يقول : يبنون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَعْرِشُونَ يبنون البيوت والمساكن ما بلغت ، وكان عنبهم غير معروش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق يَعْرِشُونَ بكسر الراء ، سوى عاصم بن أبي النجود ، فإنه قرأه بضمها . وهما لغتان مشهورتان في العرب ، يقال : عرَش يعرِش ويعرُش ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب لاتفاق معنى ذلك ، وأنهما معروفان من كلام العرب ، وكذلك تفعل العرب في فعَل إذا ردّته إلى الاستقبال ، تضمّ العين منه أحيانا ، وتكسره أحيانا . غير أن أحبّ القراءتين إليّ كسر الراء لشهرتها في العامّة وكثرة القراءة بها وأنها أصحّ اللغتين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.