ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون . ويتجه إلى الكون العريض . يكشف عن بعض ما قدر فيه - وفي ذوات أنفسهم - من مقادير :
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ? ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .
إنه الإيقاع الأخير . وإنه لإيقاع كبير . . .
إنه وعد الله لعباده - بني الإنسان - أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ، ومن خفايا أنفسهم على السواء . وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق . هذا الدين . وهذا الكتاب . وهذا المنهج . وهذا القول الذي يقوله لهم . ومن اصدق من الله حديثاً ?
ولقد صدقهم الله وعده ؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد ؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم . وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد .
وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين . فقد تفتحت لهم الآفاق . وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله .
لقد عرفوا أشياء كثيرة . لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير .
عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون . . إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس . وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين . وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم - وربما طبيعة كونهم ، إن صح ما عرفوه !
وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه . إن صح أن هناك مادة . عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة . وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع . وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع . . في صور شتى : هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام !
وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير . عرفوا أنه كرة أو كالكرة . وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس . وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره . وكشفوا عن شيء من باطنه . وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف هذا الكوكب من الأقوات . والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضاً !
وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير ، وتصرف هذا الكون الكبير . ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس . ومنهم من انحرف فوقف عن ظاهر العلم لا يتعداه . ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم ، قد أخذت عن طريق العلم تثوب ، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق .
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون . فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير . عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه ، وغذائه وتمثيله ، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته ، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله .
وعرفوا عن النفس البشرية شيئاً . . إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم . لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه . ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجيء . .
ووعد الله ما يزال قائماً : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ . فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى . وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون ! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد . ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي . ولكن هذه الموجة تنحسر الآن . تنحسر - على الرغم من جميع الظواهر المخالفة - وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه ، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله . وحتى يحق وعد الله الذي لا بد أن يكون :
قوله تعالى : " سنريهم آياتنا " أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا " في الآفاق " يعني خراب منازل الأمم الخالية " وفي أنفسهم " بالبلايا والأمراض . وقال ابن زيد : " في الآفاق " آيات السماء " وفي أنفسهم " حوادث الأرض . وقال مجاهد : " في الآفاق " فتح القرى ، فيسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموما ، وفي ناحية المغرب خصوصا من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعفائهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة عن المعهود خارقة للعادات " وفي أنفسهم " فتح مكة . وهذا اختيار الطبري ، وقاله المنهال بن عمرو والسدي . وقال قتادة والضحاك : " في الآفاق " وقائع الله في الأمم " وفي أنفسهم " يوم بدر . وقال عطاء وابن زيد أيضا " في الآفاق " يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغيرها . وفي الصحاح : الآفاق النواحي ، واحدها أفق وأفق مثل عسر وعسر ، ورجل أفقي بفتح الهمزة والفاء : إذا كان من آفاق الأرض . حكاه أبو نصر . وبعضهم يقول : أفقي بضمها وهو القياس . وأنشد غير الجوهري :
أخَذْنَا بآفاق السماء عليكم *** لنَا قَمَرَاهَا والنُّجُوم الطوالعُ
" وفي أنفسهم " من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول ، فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد ويتميز ذلك من مكانين ، وبديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة . وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه . وقيل : " وفي أنفسهم " من كونهم نطفا إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم كما تقدم في " المؤمنون " {[13453]} بيانه . وقيل : المعنى سيرون ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن وأخبار الغيب " حتى يتبين لهم أنه الحق " فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه القرآن . الثاني : الإسلام جاءهم به الرسول ودعاهم إليه . الثالث : أن ما يريهم الله ويفعل من ذلك هو الحق . الرابع : أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الحق . " أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " " أو لم يكف بربك " في موضع رفع بأنه فاعل " بيكف " و " أنه " بدل من " ربك " فهو رفع إن قدرته بدلا على الموضع ، وجر " إن " قدرته بدلا على اللفظ . ويجوز أن يكون نصبا بتقدير حذف اللام ، والمعنى أو لم يكفهم ربك بما دلهم عليه من توحيده ؛ لأنه " على كل شيء شهيد " وإذا شهده جازى عليه . وقيل : المعنى " أو لم يكف بربك " في معاقبته الكفار . وقيل : المعنى " أو لم يكف بربك " يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار . وقيل : " أو لم يكف بربك " شاهدا على أن القرآن من عند الله . وقيل : " أو لم يكف بربك أنه على كل شيء " مما يفعله العبد " شهيد " والشهيد بمعنى العالم ، أو هو من الشهادة التي هي الحضور
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد }
{ سنريهم آياتنا في الآفاق } أقطار السماوات والأرض من النيرات والنبات والأشجار { وفي أنفسهم } من لطيف الصنعة وبديع الحكمة { حتى يتبين لهم أنه } أي القرآن { الحق } المنزل من الله بالبعث والحساب والعقاب ، فيعاقبون على كفرهم به وبالجائي به { أوَ لم يكف بربك } فاعل يكف { أنه على كل شيءٍ شهيد } بدل منه ، أي أوَ لم يكفهم في صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء ما .