ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ } [ أي : ] بالأقوال والأفعال ، وذلك بالقيام بدين الله ، والحرص على إقامته{[1089]} على الغير ، وجهاد من عانده ونابذه ، بالأبدان والأموال ، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق ، بدحض حجته ، وإقامة الحجة عليه ، والتحذير منه .
ومن نصر دين الله ، تعلم كتاب الله وسنة رسوله ، والحث على ذلك ، [ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] .
ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله : { كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } أي : قال لهم عارضا ومنهضا{[1090]} من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله ، ويدخل مدخلي ، ويخرج مخرجي ؟ . فابتدر الحواريون ، فقالوا : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه ، هو ومن معه من الحواريين ، { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } بسبب دعوة عيسى والحواريين ، { وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } منهم ، فلم ينقادوا لدعوتهم ، فجاهد المؤمنون الكافرين ، { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } أي : قويناهم ونصرناهم عليهم .
{ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } عليهم وقاهرين [ لهم ] ، فأنتم يا أمة محمد ، كونوا أنصار الله ودعاة دينه ، ينصركم الله كما نصر من قبلكم ، ويظهركم على عدوكم .
تمت ولله الحمد{[1091]} .
هذا خطاب آخر للمؤمنين تكملة لما تضمنه الخطاب بقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة } إلى قوله : { وتجاهدون في سبيل الله } [ الصف : 10 ، 11 ] الآية الذي هو المقصود من ذلك الخطاب ، فجاء هذا الخطاب الثاني تذكيراً بأسوة عظيمة من أحوال المخلصين من المؤمنين السابقين وهم أصحاب عيسى عليه السلام مع قلة عددهم وضعفهم .
فأمر الله المؤمنين بنصر الدين وهو نصر غير النصر الذي بالجهاد لأن ذلك تقدم التحريض عليه في قوله : { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [ الصف : 11 ] الآية ووَعَدهم عليه بأن ينصرهم الله ، فهذا النصر المأمور به هنا نصر دِين الله الذي آمنوا به بأن يبثّوه ويَثْبُتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهلِ الكتاب ، قال تعالى : { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] وهذا هو الذي شبه بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى عليه السّلام ، فإن عيسى لم يجاهد من عاندوه ، ولا كان الحواريون ممن جاهدوا ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض ثم دبّ إليه التغيير حتى جاء الإسلام فنسخه من أصله .
والأنصار : جمع نصير ، وهو الناصر الشديد النصر .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر { كونوا أنصاراً لله } بتنوين { أنصاراً } وقرن اسم الجلالة باللام الجارة فيكون { أنصاراً } مراداً به دلالة اسم الفاعل المفيد للإِحداث ، أي محدثين النصر ، واللام للأجْل ، أي لأجل الله ، أي ناصرين له كما قال تعالى : { فلا ناصر لهم } [ محمد : 13 ] .
وقرأه الباقون بإضافة { أنصار } إلى اسم الجلالة بدون لام على اعتبار أنصار كاللقب على نحو قوله : { من أنصاري } .
والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيهُ تمثيل ، أي كونوا عند ما يدعوكم محمد صلى الله عليه وسلم إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له .
والتشبيه لقصد التنظير والتأسّي فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدّين ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب .
و ( ما ) مصدرية ، أي كقول عيسى وقول الحواريين . وفيه حذف مضاف تقديره : لكوننِ قوللِ عيسى وقول الحواريين . فالتشبيه بمجموع الأمرين قول عيسى وجواب الحواريين لأن جواب الحواريين بمنزلة الكلام المفرع على دعوة عيسى وإنما تحذف الفاء في مثله من المقاولات والمحاورات للاختصار ، كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .
وقول عيسى { من أنصاري إلى الله } استفهام لاختبار انتدَابهم إلى نصر دين الله معه نظير قول طرفة :
إن القوم قالوا مَن فتىً خلت إنني *** عُنيت فلم أكسَل ولم أتبلد
وإضافة { أنصار } إلى ياء المتكلم وهو عيسى باعتبارهم أنصارَ دعوته .
و{ إلى الله } متعلق ب { أنصاري } . ومعنى { إلى } الانتهاء المجازي ، أي متوجهين إلى الله ، شبه دعاؤهم إلى الدين وتعليمهم الناس ما يرضاه الله لهم بسعي ساعين إلى الله لينصروه كما يسعى المستنجَد بهم إلى مكان مستنجِدهم لينصروه على من غلبه .
ففي حرف { إلى } استعارة تبعية ، ولذلك كان الجواب المحكي عن الحواريين مطابقاً للاستفهام إذ قالوا : نحن أنصار الله ، أي نحن ننصر الله على من حادّه وشاقَّه ، أي ننصر دينه .
و { الحواريون } : جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي كلمة معربَة عن الحبشية ( حَواريا ) وهو الصاحب الصفي ، وليست عربية الأصل ولا مشتقة من مادة عربية ، وقد عدها الضحاك في جملة الألفاظ المعرّبة لكنه قال : إنها نبطية . ومعنى الحواري : الغسّال ، كذا في « الإِتقان » .
و { الحواريون } : اسم أطلقه القرآن على أصحاب عيسى الاثني عشر ، ولا شك أنه كان معروفاً عند نصارى العرب أخذوه من نصارى الحبشة . ولا يعرف هذا الاسم في الأناجيل .
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام حواريَّهُ على التشبيه بأحد الحواريين فقال : « لكل نبيء حواري وحواري الزبير » . وقد تقدم ذكر الحواريين في قوله تعالى : { قال الحواريون نحن أنصار الله } في سورة [ آل عمران : 52 ] .
واعلم أن مقالة عيسى عليه السّلام المحكية في هذه الآية غير مقالته المحكية في آية آل عمران فإن تلك موجهة إلى جماعة بني إسرائيل الذين أحسّ منهم الكفر لمَّا دعاهم إلى الإِيمان به . أمّا مقالته المحكية هنا فهي موجهة للذين آمنوا به طالباً منهم نصرته لقوله تعالى : { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين } الآية ، فلذلك تعين اختلاف مقتضى الكلامين المتماثلين .
وعلى حسب اختلاف المقامين يجرى اختلاف اعتبار الخصوصيات في الكلامين وإن كانا متشابهين فقد جعلنا هنالك إضافة { أنصارُ الله } [ آل عمران : 52 ] إضافة لفظية وبذلك لم يكن قولهم : { نحن أنصار الله } مفيداً للقصر لانعدام تعريف المسند . فأما هنَا فالأظهر أن كلمة { أنصار الله } اعتبرت لقباً للحواريين عَرَّفوا أنفسهم به وخلعوه على أنفسهم فلذلك أرادوا الاستدلال به على أنهم أحق الناس بتحقيق معناه ، ولذلك تكون إضافة { أنصار } إلى اسم الجلالة هنا إضافة معنوية مفيدة تعريفاً فصارت جملة { نحن أنصار الله } هنا مشتملة على صيغة قصر على خلاف نظيرتها التي في سورة آل عمران .
ففي حكاية جواب الحواريين هنا خصوصية صيغة القصر بتعريف المسند إليه والمسند . وخصوصيةُ التعريف بالإِضافة . فكان إيجازاً في حكاية جوابهم بأنهم أجابوا بالانتداب إلى نصر الرسول وبجعل أنفسهم محقوقين بهذا النصر لأنهم محضوا أنفسهم لنصر الدين وعُرِفوا بذلك وبحصر نصر الدين فيهم حصراً يفيد المبالغة في تمحضهم له حتى كأنه لا ناصر للدين غيرهم مع قلتهم وإفادته التعريض بكفر بقيّة قومهم من بني إسرائيل .
وفرع على قول الحواريين { نحن أنصار } الإخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين طائفة آمنت بعيسى وما جاء به ، وطائفة كفرت بذلك وهذا التفريع يقتضي كلاماً مقدراً وهو فَنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني إسرائيل وكفر بعض وإنما استجاب لهم من بني إسرائيل عدد قليل فقد جاء في إنجيل ( لُوقَا ) أن أتباع عيسى كانوا أكثر من سبعين .
والمقصود من قوله : { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } التوطئة لقوله : { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } والتأييد النصر والتقوية ، أيد الله أهل النصرانية بكثير ممن اتبع النصرانية بدعوة الحواريين وأتباعهم مثل بولس .
وإنما قال : { فأيدنا الذين آمنوا } ولم يقل : فأيدناهم لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير ومُثِّل بهم وأُلْقوا إلى السباع في المشاهد العامة تفترسهم ، وكان ممن قُتل من الحواريين الحواري الأكبر الذي سماه عيسى بطرس ، أي الصخرة في ثباته في الله .
ويزعمون أن جثته في الكنيسة العظمى في رومة المعروفة بكنيسة القدِّيس بطرس والحكمُ على المجموع في مثل هذا شائع كما تقول : نصر الله المسلمين يوم بدر مع أن منهم من قتل . والمقصود نصر الدين .
والمقصود من هذا الخبر وعد المسلمين الذين أُمروا أن يكونوا أنصاراً لله بأن الله مؤيدهم على عدوّهم .
والعدوّ يطلق على الواحد والجمع ، قال تعالى : { وهم لكم عدو } [ الكهف : 50 ] وتقدم عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } في سورة [ الممتحنة : 1 ] .
والظاهرُ : هو الغالب ، يقال : ظهر عليه ، أي غلبه ، وظهَر به أي غلب بسببه ، أي بإعانته وأصل فعله مشتق من الاسم الجامد . وهو الظَهْر الذي هو العمود الوسط من جسد الإِنسان والدَّواب لأن بالظهر قوة الحيوان . وهذا مثل فعل ( عَضَد ) مشتقاً من العضُد . و ( أيد ) مشتقاً من اليد ومن تصاريفه ظاهرَ عليه واستظهر وظَهير له قال تعالى : { والملائكة بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] . فمعنى { ظاهرين } أنهم منصورون لأن عاقبة النصر كانت لهم فتمكنوا من الحكم في اليهود الكافرين بعيسى ومزقوهم كل ممزق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، كونوا أنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: {مَنْ أنْصَاري إلى اللّهِ}، يعني من أنصاري منكم إلى نصرة الله لي...
وقوله: {قالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ} يقول: قالوا: نحن أنصار الله على ما بعث به أنبياءه من الحقّ.
وقوله: {فآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ} يقول جلّ ثناؤه: فآمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى، وكفرت طائفة منهم به...
وقوله: {فأيّدْنا الّذِينَ آمَنُوا على عَدُوّهِمْ} يقول: فقوّينا الذين آمنوا من الطائفتين من بني إسرائيل على عدوّهم، الذين كفروا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لتصديقه إياهم، أن عيسى عبد الله ورسوله، وتكذيبه من قال هو إله، ومن قال: هو ابن الله تعالى ذكره، فأصبحوا ظاهرين، فأصبحت الطائفة المؤمنون ظاهرين على عدوّهم الكافرين منهم... عن إبراهيم، في قوله: {فأيّدْنا الّذِينَ آمَنُوا على عَدُوّهِمْ فأصْبَحُوا ظاهِرِينَ} قال: أيدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فصدّقهم، وأخبر بحجتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... جعل ما ينصرون به دينه أو رسوله نصر الله تعالى. وذلك قوله تعالى {إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] والمعنى في هذا: إن تنصروا دين الله ينصركم، أو إن تنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إن تنصروا الحق، والله أعلم أي ذلك كان...
والحواريون: الناصرون الواقون دينهم عن الشبهة، وهم قوم كانوا خيرة عيسى عليه السلام وخاصته حين دعاهم إلى دينه فأجابوه، وآمنوا به ووقوا دينهم عن كل شبهة وآفة وعيب...
{فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة} هذا يحتمل أن يكون في حياة عيسى عليه السلام حين اتبعه الحواريون، ثم دعا بعد ذلك قومه إلى دينه، {فآمنت طائفة وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا} بالبراهين والحجج على الطائفة الذين كفروا، فأصبحوا ظاهرين على أعدائهم بالحجج والبراهين. ويجوز أن يكون ذلك بعد وفاة عيسى عليه السلام حين اختلفوا في ماهيته: فمنهم من قال: هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، فكفرت به هذه الطائفة وآمنت به طائفة أخرى، {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم} حين وقع لهم قتال، فنصروا عليهم، وظفروا، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي كونوا أنصاراً لدينه ورسوله كما أنَّ عيسى لمَّا استعانَ واستنصرَ الحواريين نصروه. فانصروا محمداً إذا استنصركم. ثم أخبر أنَّ طائفةً من بني إسرائيل آمنوا بعيسى فأُكْرِموا، وطائفةً كفروا فأُذِلُّوا، وأظفرَ أولياءَه على أعدائه.. لكي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الله سبحانه يُظْفِرُ أولياءَه على أعدائه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ضرب تعالى لهم المثل بقوم بادروا حين دعوا، وهم «الحواريون»: خلصان الأنبياء... {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم} قيل ذلك قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد فترة من رفع عيسى عليه السلام، رد الله تعالى الكرة لمن آمن به، فغلبوا الكافرين الذين قتلوا صاحبه الذي ألقي عليه الشبه، وقيل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم، أصبح المؤمن بعيسى ظاهراً لإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لا يؤمن أحد حق الإيمان بعيسى، إلا وفي ضمن ذلك الإيمان بمحمد لأنه بشّر به، وحرض عليه، وقيل كان المؤمنون به قديماً، {ظاهرين} بالحجة، وإن كانوا مفرقين في البلاد، مغلوبين في ظاهر الحياة الدنيا.
{كونوا أنصار الله} أمر بإدامة النصرة والثبات عليه، أي ودوموا على ما أنتم عليه من النصرة...
فأخبر عنهم بذلك، أي أنصار دين الله ومنهم من قال: أمر الله المؤمنين أن ينصروا محمدا صلى الله عليه وسلم كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام، وفيه إشارة إلى أن النصر بالجهاد لا يكون مخصوصا بهذه الأمة. وحواري الرجل: صفيه وخلصاؤه من الحور، وهو البياض الخالص...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما هز سبحانه إلى الجهاد وشوق إليه بأنه متجر رابح، ولوح إلى النذارة بالتنشيط بالبشارة، فتهيأت النفوس إلى الإقبال عليه وانبعثت أي انبعاث، حض عليه بالإيجاب المقتضي للثواب أو العقاب، فقال منادياً بأداة البعد والتعبير بما يدل على أدنى الأسنان تأنيباً على أنه لا يعدم الوصف بالإيمان إلا مقرون بالحرمان تشويقاً وتحبيباً: {يأيها الذين آمنوا} أي أقروا بذلك فأذعنوا بهذا الوعظ غاية الإذعان أني أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لكم: {كونوا} أي بغاية جهدكم {أنصار الله} أي راسخين في وصف النصرة وفي الذروة العليا من ثبات الأقدام في تأييد الذي له الغنى المطلق لتكونوا -بما أشارت إليه قراءة الجماعة بالإضافة- بالاجتهاد في ذلك كأنكم جميع أنصاره، فإنكم أشرف من قوم عيسى عليه الصلاة والسلام، وما ندبكم سبحانه لنصرته إلا لتشريفكم بمصاحبة رسله الذين هم خلاصة خلقه عليهم الصلاة والسلام فقولوا سمعنا وأطعنا نحن أنصار الله وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين ولام الجر على معنى: كونوا بعض أنصاره، ويشبه أن يكون المأمور به في هذه القراءة الثبات على الإيمان ولو في أدنى الدرجات، وفي قراءة الجمهور الرسوخ فيه.
ولما كان التقدير على صفة هي من الثبات والسرعة على صفة الحواريين، عبر عن ذلك بقوله: {كما} أي كونوا لأجل أني أنا ندبتكم بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين {قال عيسى ابن مريم} حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام {للحواريين} أي خلص أصحابه وخاصته منهم: {من أنصاري} حال كونهم سائرين في منازل السلوك والمعاملات ومراحل المجاهدات والمنازلات {إلى الله} أي المحيط بكل شيء فنحن إليه راجعون كما كنا به مبدوئين.
ولما اشتد تشوف السامع إلى جوابهم، أبان ذلك بقوله: {قال الحواريون} معلمين أنهم جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه عاملين فيما دعاهم إليه عمل الواصل لا السائر لعلمهم أنه إجابته إجابة الله لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله: {نحن} أي بأجمعنا {أنصار الله} أي الملك الأعلى الذي هو غني عنا وقادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض ننصره الآن بالفعل، لا نحتاج إلى تدريب يسير ولا نظر إلى غير، لاستحضارنا لجميع ما يقدر عليه الآدمي من صفات جلاله وجماله وكماله، ولذلك أظهروا ولم يضمروا.
ولما كان التقدير: ثم دعوا من خالفهم من بني إسرائيل وبارزوهم، سبب عنه قوله: {فآمنت} أي به {طائفة} أي ناس فيهم أهلية الاستدارة لما لهم من الكثرة {من بني إسرائيل} أي قومه {وكفرت طائفة} أي منهم، وأصل الطائفة: القطعة من الشيء {فأيدنا} أي قوينا بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام {الذين آمنوا} أي الذين أقروا بالإيمان المخلص منهم وغيره في القول والفعل وشددنا قلوبهم {على عدوهم} الذين عادوهم لأجل إيمانهم. ولما كان الظفر بالمحبوب أحب ما يكون إذا كان أول النهار، تسبب عن تأييده قوله: {فأصبحوا} أي صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل {ظاهرين} أي عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً إلا الله ولا يستخفون منه، فالتأييد تارة يكون بالعلم وتارة بالفعل... والظاهر كما هو ظاهر قوله تعالى:
{جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} [آل عمران: 55] وغيرها أن تأييد المؤمنين به كان بعد رفعه بيسير حين ظهر الحواريون وانبثوا في البلاد يدعون إلى الله بما آتاهم من الآيات، فاتبعهم الناس، فلما تمادى الزمان ومات الحواريون رضي الله عنهم افترق الناس ودب إليهم الفساد، فغلب أهل الباطل وضعف أهل الحق حتى كانوا عند بعث النبي صلى الله عليه وسلم عدماً أو في حكم العدم، -كما دلت عليه قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد رجع آخر السورة كما ترى بما وقع من التنزه عما يوهمه علو الكفرة من النقص بنصر أوليائه وقسر أعدائه، ومن الأمر مما أخبر أولها أنه يحبه من القتال في سبيله حثاً عليه وتشويقاً إليه- على أولها، واتصل بما بشر به من آمن ولو على أدنى وجوه الإيمان من العز موصلها بمفصلها، بما أزيل من الأسباب الحاملة له على المداراة، والأمور التي أوقعته في المماشاة مع الكفار والمجاراة، فأوجب ذلك رسوخ الإيمان، وحصول الإتقان، المقتضي للتنزيه بالفعل عن كل شوب نقصان، والله الموفق للصواب وعليه التكلان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحواريون هم تلاميذ المسيح -عليه السلام- قيل: الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به، وينقطعون للتلقي عنه. وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه. والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة، فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضع من السورة. (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله).. في هذا الموضع الكريم الذي يرفعكم إليه الله. وهل أرفع من مكان يكون فيه العبد نصيرا للرب؟! إن هذه الصفة تحمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم.. كونوا أنصار الله، (كما قال عيسى بن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله).. فانتدبوا لهذا الأمر ونالوا هذا التكريم. وعيسى جاء ليبشر بالنبي الجديد والدين الأخير.. فما أجدر أتباع محمد أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم، كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت! وهذه هي اللمسة الواضحة في عرض هذا الحوار في هذا السياق. وماذا كانت العاقبة؟ (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين).. وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين: إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام هم المسيحيون إطلاقا من استقام ومن دخلت في عقيدته الانحرافات، وقد أيدهم الله على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا كما حدث في التاريخ. وإما أن الذين آمنوا هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد. ومعنى أنهم أصبحوا ظاهرين أي بالحجة والبرهان. أو أن التوحيد الذي هم عليه هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير؛ وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض كما وقع في التاريخ. وهذا المعنى الأخير هو الأقرب والأرجح في هذا السياق. والعبرة المستفادة من هذه الإشارة ومن هذا النداء هي العبرة التي أشرنا إليها، وهي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير، الأمناء على منهج الله في الأرض، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية. المختارين لهذه المهمة الكبرى. استنهاض همتهم لنصرة الله ونصرة دينه (كما قال عيسى بن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله).. والنصر في النهاية لأنصار الله المؤمنين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فهذا النصر المأمور به هنا نصر دِين الله الذي آمنوا به بأن يبثّوه ويَثْبُتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهلِ الكتاب...
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر الشديد النصر والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيهُ تمثيل، أي كونوا عند ما يدعوكم محمد صلى الله عليه وسلم إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له. والتشبيه لقصد التنظير والتأسّي فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدّين ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب. وقول عيسى {من أنصاري إلى الله} استفهام لاختبار انتدَابهم إلى نصر دين الله معه وإضافة {أنصار} إلى ياء المتكلم وهو عيسى باعتبارهم أنصارَ دعوته. و {إلى الله} متعلق ب {أنصاري}. ومعنى {إلى} الانتهاء المجازي، أي متوجهين إلى الله، شبه دعاؤهم إلى الدين وتعليمهم الناس ما يرضاه الله لهم بسعي ساعين إلى الله لينصروه كما يسعى المستنجَد بهم إلى مكان مستنجِدهم لينصروه على من غلبه. و {الحواريون}: جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي كلمة معربَة عن الحبشية (حَواريا) وهو الصاحب الصفي، وليست عربية الأصل ولا مشتقة من مادة عربية، وقد عدها الضحاك في جملة الألفاظ المعرّبة لكنه قال: إنها نبطية. ومعنى الحواري: الغسّال، كذا في « الإِتقان». و {الحواريون}: اسم أطلقه القرآن على أصحاب عيسى الاثني عشر، ولا شك أنه كان معروفاً عند نصارى العرب أخذوه من نصارى الحبشة...
.واعلم أن مقالة عيسى عليه السّلام المحكية في هذه الآية غير مقالته المحكية في آية آل عمران فإن تلك موجهة إلى جماعة بني إسرائيل الذين أحسّ منهم الكفر لمَّا دعاهم إلى الإِيمان به. أمّا مقالته المحكية هنا فهي موجهة للذين آمنوا به طالباً منهم نصرته لقوله تعالى: {كما قال عيسى ابن مريم للحواريين} الآية، فلذلك تعين اختلاف مقتضى الكلامين المتماثلين. وعلى حسب اختلاف المقامين يجرى اختلاف اعتبار الخصوصيات في الكلامين وإن كانا متشابهين فقد جعلنا هنالك إضافة {أنصارُ الله} [آل عمران: 52] إضافة لفظية وبذلك لم يكن قولهم: {نحن أنصار الله} مفيداً للقصر لانعدام تعريف المسند. فأما هنَا فالأظهر أن كلمة {أنصار الله} اعتبرت لقباً للحواريين عَرَّفوا أنفسهم به وخلعوه على أنفسهم فلذلك أرادوا الاستدلال به على أنهم أحق الناس بتحقيق معناه، ولذلك تكون إضافة {أنصار} إلى اسم الجلالة هنا إضافة معنوية مفيدة تعريفاً فصارت جملة {نحن أنصار الله} هنا مشتملة على صيغة قصر على خلاف نظيرتها التي في سورة آل عمران.وفرع على قول الحواريين {نحن أنصار} الإخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين طائفة آمنت بعيسى وما جاء به، وطائفة كفرت بذلك وهذا التفريع يقتضي كلاماً مقدراً وهو فَنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني إسرائيل وكفر بعض وإنما استجاب لهم من بني إسرائيل عدد قليل...
{فأيدنا الذين آمنوا} ولم يقل: فأيدناهم لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير... والظاهرُ: هو الغالب... فمعنى {ظاهرين} أنهم منصورون لأن عاقبة النصر كانت لهم...