{ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا }
وقوله تعالى : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة . وهم اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين{[183]} لهم ، وهم صغار ضعاف لا يقومون بمصالحهم .
فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم ، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن ، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا ، كاملة موفرة ، وأن لا { تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ } الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق . { بِالطَّيِّبِ } وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة . { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي : مع أموالكم ، ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة ، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله . فمن تجرأ على هذه الحالة ، فقد أتى { حُوبًا كَبِيرًا } أي : إثمًا عظيمًا ، ووزرًا جسيمًا .
ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس ، ويجعل بدله من ماله الخسيس . وفيه الولاية على اليتيم ، لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله ، ثبوت ولاية المؤتي على ماله .
وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم ، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار .
مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام ، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم ، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله . وشيء هذا شأنه حقيق بأن تُراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك . وهذا ممَّا أشار إليه قوله تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء . . . } [ النساء : 1 ] .
والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي ، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّاً له ، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] وفي الحديث : « رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها » . واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة ، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يَتَائِم ، فوقع فيه قلب مَكَانِيّ فقالوا يَتَامِىءُ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفاً وحرّكت الميم بالفتح ، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جَمْع الجمع بأن جمع أوّلاً على يَتْمَى ، كما قالوا : أسير وأسْرى ، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة ، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسماً مثل أفيل وأفائل ، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفاً . وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم ، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي :
أأطْلالَ حُسْن في البِراق اليَتَائِم *** سَلام على أطلالِكُنّ القَدَائِم
واشتقاق اليتيم من الإنفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن ، وفعله من باب ضرب وهو قاصر ، وأطلقه العرب على من فُقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفرداً لا يجد من يدفع عنه ، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة ، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه . وقد ظهر ممّا راعَوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيماً إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه ، وذلك هو إطلاق الشريعة لا سم اليتيم ، والأصل عدم النقل .
وقيل : هو في اللغة من فُقد أبوه ، ولو كان كبيراً ، أو كان صغيراً وكَبر ، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحاً . وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغُلب في ضمير التذكير في قوله : { أموالهم } .
وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم ، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقاً عليه اسم اليتيم ، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله ، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم ، فلنا أن نؤوّل { آتوا } بغير معنى ادفعوا . وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال : نزلت هذه الآية في الذين لا يُورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية ، فيكون { آتوا } بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم ، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام ، لا تأكيد بعضها لبعض ، أو تقييد بعضها لبعض .
وقال صاحب « الكشاف » : « يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة » فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء ، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } . وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله : { وابتلوا اليتامى } [ النساء : 6 ] الآية . ولنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليُتْم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع ، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم ، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّداً بقوله الآتي : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] . ومن الناس من قال : اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه ، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي ، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفرداً وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوماً .
قيل : نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره ، فلمّا بلغ طلب ماله ، فمنعه عمّه ، فنزلت هذه الآية ، فرَدّ المال لابن أخيه ، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم } .
وقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب . والقول في تعدية فعل تبدّل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة فالبقرة ( 61 ) قال : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } وعلى ما تقرّر هناك يتعيّن أن يكون الخبيث هو المأخوذ ، والطيّب هو المتروك .
والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي ، وهما استعارتان ؛ فالخبيث المذموم أو الحرام ، والطيّب عكسه وهو الحلال : وتقدّم في قوله تعالى : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ) . فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام ، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيداً للأمر ، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر ، وهذا الوجه ينبىء عن جعل التبدّل مجازاً والخبيث والطيّب كذلك ، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال . وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي .
وقوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم ، فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها ، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول .
والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده ، ولا مطمع في إرجاعه ، وضمّن ( تأكلوا ) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي : لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم .
وليس قيد { إلى أموالكم } محطّ النهي ، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقاً سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن ، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر ، ذكر هذا القيد رعياً للغالب ، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء ؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين ، ولذلك روي : أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة ( 220 ) : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام ، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولاً للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ . وهما في فهم العرب نهيان ، وليس هو نهياً عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتاً بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة .
والحُوب بضمّ الحاء لغة الحجاز ، و بفتحها لغة تميم ، وقيل : هي حبشية ، ومعناه الإثم ، والجملة تعليل للنهي : لموقع إنّ منها ، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم . ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكِّد الخبر بكان الزائدة .