تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (6)

{ 6 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ْ }

هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة ، نذكر منها ما يسره الله وسهله .

أحدها : أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به ، لأنه صدرها بقوله { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ْ } إلى آخرها . أي : يا أيها الذين آمنوا ، اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم .

الثاني : الأمر بالقيام بالصلاة لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ }

الثالث : الأمر بالنية للصلاة ، لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ } أي : بقصدها ونيتها .

الرابع : اشتراط الطهارة لصحة الصلاة ، لأن الله أمر بها عند القيام إليها ، والأصل في الأمر الوجوب .

الخامس : أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت ، وإنما تجب عند إرادة الصلاة .

السادس : أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة ، من الفرض والنفل ، وفرض الكفاية ، وصلاة الجنازة ، تشترط له الطهارة ، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء ، كسجود التلاوة والشكر .

السابع : الأمر بغسل الوجه ، وهو : ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد ، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا . ومن الأذن إلى الأذن عرضا .

ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق ، بالسنة ، ويدخل فيه الشعور التي فيه . لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة ، وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها .

الثامن : الأمر بغسل اليدين ، وأن حدهما إلى المرفقين و " إلى " كما قال جمهور المفسرين بمعنى " مع " كقوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ْ } ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق .

التاسع : الأمر بمسح الرأس .

العاشر : أنه يجب مسح جميعه ، لأن الباء ليست للتبعيض ، وإنما هي للملاصقة ، وأنه يعم المسح بجميع الرأس .

الحادي عشر : أنه يكفي المسح كيفما كان ، بيديه أو إحداهما ، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما ، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة ، فدل ذلك على إطلاقه .

الثاني عشر : أن الواجب المسح . فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف ، لأنه لم يأت بما أمر الله به .

الثالث عشر : الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين ، ويقال فيهما ما يقال في اليدين .

الرابع عشر : فيها الرد على الرافضة ، على قراءة الجمهور بالنصب ، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين .

الخامس عشر : فيه الإشارة إلى مسح الخفين ، على قراءة الجر في { وأرجلكم ْ }

وتكون كل من القراءتين ، محمولة على معنى ، فعلى قراءة النصب فيها ، غسلهما إن كانتا مكشوفتين ، وعلى قراءة الجر فيها ، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف .

السادس عشر : الأمر بالترتيب في الوضوء ، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة .

ولأنه أدخل ممسوحا -وهو الرأس- بين مغسولين ، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب .

السابع عشر : أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية .

وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه ، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين ، فإن ذلك غير واجب ، بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه ، وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين ، وتقديم مسح الرأس على مسح الأذنين .

الثامن عشر : الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة ، لتوجد صورة المأمور به .

التاسع عشر : الأمر بالغسل من الجنابة .

العشرون : أنه يجب تعميم الغسل للبدن ، لأن الله أضاف التطهر للبدن ، ولم يخصصه بشيء دون شيء .

الحادي والعشرون : الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة .

الثاني والعشرون : أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر ، ويكفي من هما عليه أن ينوي ، ثم يعمم بدنه ، لأن الله لم يذكر إلا التطهر ، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء .

الثالث والعشرون : أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما ، أو جامع ولو لم ينزل .

الرابع والعشرون : أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا ، فإنه لا غسل عليه ، لأنه لم تتحقق منه الجنابة .

الخامس والعشرون : ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد ، بمشروعية التيمم .

السادس والعشرون : أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء ، فيجوز له التيمم .

السابع والعشرون : أن من جملة أسباب جوازه ، السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء ، فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به ، وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان في الحضر .

الثامن والعشرون : أن الخارج من السبيلين من بول وغائط ، ينقض الوضوء .

التاسع والعشرون : استدل بها من قال : لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران ، فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره .

الثلاثون : استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به{[255]}  لقوله تعالى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ْ }

الحادي والثلاثون : أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء .

الثاني والثلاثون : اشتراط عدم الماء لصحة التيمم .

الثالث والثلاثون : أن مع وجود الماء ولو في الصلاة ، يبطل التيمم لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء .

الرابع والثلاثون : أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء ، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه ، لأنه لا يقال " لم يجد " لمن لم يطلب .

الخامس والثلاثون : أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته ، فإنه يلزمه استعماله ، ثم يتيمم بعد ذلك .

السادس والثلاثون : أن الماء المتغير بالطاهرات ، مقدم على التيمم ، أي : يكون طهورا ، لأن الماء المتغير ماء ، فيدخل في قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ْ }

السابع والثلاثون : أنه لا بد من نية التيمم لقوله : { فَتَيَمَّمُوا ْ } أي : اقصدوا .

الثامن والثلاثون : أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره . فيكون على هذا ، قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ْ } إما من باب التغليب ، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين ، وإما أن يكون إرشادا للأفضل ، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى .

التاسع والثلاثون : أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس ، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثا .

الأربعون : أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط ، دون بقية الأعضاء .

الحادي والأربعون : أن قوله : { بِوُجُوهِكُمْ ْ } شامل لجميع الوجه وأنه يعممه{[256]}  بالمسح ، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف ، وفيما تحت الشعور ، ولو خفيفة .

الثاني والأربعون : أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط ، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك .

فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك ، كما قيده في الوضوء .

الثالث والأربعون : أن الآية عامة في جواز التيمم ، لجميع الأحداث كلها ، الحدث الأكبر والأصغر ، بل ولنجاسة البدن ، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء ، وأطلق في الآية فلم يقيد [ وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء ]{[257]}

الرابع والأربعون : أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحد ، وهو الوجه واليدان .

الخامس والأربعون : أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما ، فإنه يجزئ أخذا من عموم الآية وإطلاقها .

السادس والأربعون : أنه يكفي المسح بأي شيء كان ، بيده أو غيرها ، لأن الله قال { فامسحوا ْ } ولم يذكر الممسوح به ، فدل على جوازه بكل شيء .

السابع والأربعون : اشتراط الترتيب في طهارة التيمم ، كما يشترط ذلك في الوضوء ، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين .

الثامن والأربعون : أن الله تعالى -فيما شرعه لنا من الأحكام- لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر ، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم ، وليتم نعمته عليهم .

وهذا هو التاسع والأربعون : أن طهارة الظاهر بالماء والتراب ، تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد ، والتوبة النصوح .

الخمسون : أن طهارة التيمم ، وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة ، فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى .

الحادي والخمسون : أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار في شرائع الله ، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما ، ويزداد شكرا لله ومحبة له ، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة .


[255]:- كذا في ب، وفي أ: فيه.
[256]:- في ب: يعمه.
[257]:- زيادة من هامش: ب
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (6)

لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء ، لكن من حيث كان الوضوء متقرراً عندهم مستعملاً فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوة ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير ، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح فيما روي ، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول { لئن رجعنا إلى المدينة } [ المنافقون : 8 ] القصة بطولها ، وفيها وقع حديث الإفك{[4460]} ، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة { إذا قمتم } ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله { إذا قمتم } فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية ، وروي نحوه عن عكرمة ، وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة ، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءاً فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث{[4461]} . وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث{[4462]} .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتداباً إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد{[4463]} إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ، »{[4464]} وقال : إنما رغبت في هذا ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان لا يعمل عملاً إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال ، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة{[4465]} ، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وقال زيد بن أسلم والسدي : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم .

قال القاضي أبو محمد : والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث ، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أوجاء أحد منكم من الغائط أولا مستم النساء } يعني الملامسة الصغرى { فاغتسلوا } فتمت أحكام المحدث حدثاً أصغر ثم قال : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } فهذا حكم نوع آخر ، ثم قال للنوعين جميعاً { وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً } وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره ، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين{[4466]} وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : { فاطهروا } ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ، ليذكر الجُنب العادم للماء كما ذكر الواجد ، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم .

وقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها ، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه ، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه ، والوجه ما واجه الناظر وقابله ، وحدّه في ذي اللحية فقيل : حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن ، وقيل بل حده فيها آخر الشعر ، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس ذكره الطبري{[4467]} ، واختلف في حده عرضاً فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل : من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل : من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل : يغسل ذلك بنفسه ليس من الوجه ولا من الرأس ، وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس ، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء ، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة ، وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه .

وقوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحياناً ليطيل الغرة ، وحَّد الله تعالى موضع الغسل منه { إلى المرافق } يقال في واحدها مرفق ومرفق ، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر ، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها ، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل ، ومثل أبو العباس المبرد في ذلك بأن تقول : اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله : { أتموا الصيام إلى الليل }{[4468]} .

قال القاضي أبو محمد : وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد { إلى } ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه ، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد ، وروي عنه أنهما داخلان .

وقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين ، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه ، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر ، وقالت فرقة : يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس ، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول بالعموم واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل : هو فرض ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة : الواجب من مسح الرأس عمومه ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي : وروي عن مالك أنه إن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ .

قال القاضي أبو محمد : وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس ، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس ، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه ، وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط ، وقال أصحاب الرأي : إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم : يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها ، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه ، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به ؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعاً وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة ، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء .

قال القاضي أبو محمد : ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء ، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات ، فالجمهور على مرة واحدة ويجزىء ذلك عند الشافعي وثلاثاً أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين ، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثاً ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة ، والباء في قوله { برؤوسكم } مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس ، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم ، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كان المعنى أوجدوا مسحاً برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك ، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثاراً وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم الله .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلِكم » خفضاً وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصباً ، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض ، وروى عنه حفص النصب ، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلُكم » بالرفع المعنى فاغسلوها ، ورويت عن نافع ، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين ، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح ، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو اللازم من قوله صلى الله عليه وسلم وقد رأى قوماً يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ، «ويل للأعقاب من النار »{[4469]} ، ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين ، واختلفوا ، فقالت فرقة منهم ، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا » بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى : { فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم }{[4470]} قال وكان أنس إذا مسح رجليه بَّلهما وروي أيضاً عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح .

وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ثم قال : «ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً » وروي عن أبي جعفر أنه قال : امسح على رأسك وقدميك ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلِكم » بكسر اللام ، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم ، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح . وذهب قوم ممن يقرأ بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين » هو الغسل ، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي ، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى : { فطفق مسحاً }{[4471]} : إنه الضرب ، ويقال : مسح علاوته{[4472]} إذا ضربه ، قال أبو علي : فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل ، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل ، أن الحد قد وقع فيهما ب { إلى } كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد .

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه ، فكان الوضوء مغسولين ُحَّد أحدهما وممسوحين حَُّد أحدهما ، وقال الطبري رحمه الله : إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلاً ماسحاً ، قال : ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضىء أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار . وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء . وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بكسر اللام{[4473]} .

والكلام في قوله { إلى الكعبين } كما تقدم في قوله { إلى المرافق } واختلف اللغويون في { الكعبين } فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل . وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت ، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق . وقال قوم الكعب هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل .

قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم أحداً جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام .

قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفاً في أن { الكعبين } هما العظمان في مجمع مفصل الساق ، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال : الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم .

قال القاضي أبو محمد : ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي { إلى المرافق } أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر ، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان ، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر ، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان ، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه ، فقال الأبهري : الترتيب سنة ، وظاهر المذهب أن التنكيس{[4474]} للناسي مجزىء ، واختلف في العامد فقيل : يجزىء ويرتب في المستقبل ، وقال أبو بكر القاضي وغيره : لا يجزىء لأنه عابث .

وقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً } الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب ، ومن المجاورة والقرب قيل { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه ، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون { الجار الجنب } [ النساء : 36 ] هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب و «اطهروا » أمر بالاغتسال بالماء ، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، وقال جمهورالناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء ، وقد ذكر الجنب أيضاً بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى : { أو لامستم النساء } إذ الملامسة هنا الجماع ، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه ، هذا ينغمس الرجل في الماء دون تدلك ، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل : { وإن كنتم مرضى } إلى قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقراءة من قرأ «من الغيط » .

وقوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلاً مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة ، من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم ، وتعدية ( أراد ) وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل{[4475]}

قال سيبويه وسألته رحمه الله عن هذا فقال ، المعنى إرادتي لأنسى ، ومن ذلك قول قيس بن سعد :

أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود{[4476]}

ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام ، وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن ، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة [ من ] وإن لم يكن النفي واقعاً على الفعل الواقع على الحرج ، ولهذا نظائر ، والحرج : الضيق ، والحرجة : الشجر الملتف المتضايق ، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ، ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم«دين الله يسر »{[4477]} وقوله «بعثت بالحنيفية السمحة »{[4478]} وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبداً ولذلك قال أسيد : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر .

وقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } الآية ، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى ، و { لعلكم } : ترجّ في حق البشر ، وقرأ سعيد بن المسيب «يطْهركم » بسكون الطاء وتخفيف الهاء .


[4460]:- روى البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته). وهذا الحديث هو الذي أشار إليه ابن عطية في أكثر من موقع في الفقرة السابقة. وفيه قالت عائشة رضي الله عنها: "نزلت آية التيمم"
[4461]:- أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، قال الترمذي: إسناده ضعيف- (عن ابن كثير).
[4462]:- أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. (عن الدر المنثور). والغسيل هو حنظلة رضي الله عنه، نفر حين سمع الهائعة وهو جنب فاستشهد فغسلته الملائكة فلقب بالغسيل.
[4463]:- قال القرطبي: "حديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد، وذلك في غزوة خيبر" ثم قال: "وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئة، وأخرجه البخاري ومسلم". وهذا الحديث في جمعه صلى الله عليه وسلم بين صلاتين بوضوء واحد، وأما جمعه بين الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقد أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن بريدة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله، قال: إني عمدا فعلت يا عمر). وبريدة هو ابن الحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد. (عن القرطبي والدر المنثور).
[4464]:- أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة- (الجامع الصغير للسيوطي)
[4465]:- علقمة بن الفغواء (بفاء مفتوحة والغين المعجمة ساكنة)- قال ابن حبان وابن الكلبي: له صحبة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال إلى أبي سفيان بن حرب في فقراء قريش وهم مشركون- يتألفهم- وقال له: التمس صاحبا.
[4466]:- ففي الآية محذوف تقديره: "محدثين"- والأقوال في الآية أربعة- (أ) أن الآية عامة في كل قيام سواء كان المرء على طهور أم محدثا (ب) أن الآية نزلت رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (جـ) أن الآية فيها تقديم وتأخير، وأن المعنى: إذا قمتم للصلاة من المضاجع والقصد أن تشمل أنواع الحدث الأصغر،ثم أسباب الحدث الأكبر (د) أن في الآية محذوفا تقديره: "محدثين" وليس فيها تقديم ولا تأخير.
[4467]:- أخرج الطبري عن أنس بن مالك قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل لحيته، فقلت: لم تفعل هذا يا نبي الله؟ قال: أمرني بذلك ربي). (تفسير الطبري 6/120) ونلاحظ أن ابن عطية قال: "واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين: روي تخليلها...الخ ما ذكره من حديث أنس". وهذا هو القول الأول، ومعنى ذلك أنه روي أيضا عدم التخليل وهو القول الثاني، ولكن النسخ التي بين أيدينا ليس فيها كلام عن القول الثاني، ولعله سقط عند النسخ- هذا وقد روى الطبري كثيرا من الأخبار التي تفيد أن غسل اللحية يكفي فيه ما مر عليها، وأن التخليل غير واجب. راجع تفسيره (6/115)، وما بعدها.
[4468]:- من الآية (187) من (سورة البقرة)
[4469]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. (الجامع الصغير)
[4470]:- أخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير- عن أنس (الدر المنثور).
[4471]:- من قوله تعالى: في الآية (33) من سورة (ص): [ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق].
[4472]:- العلاوة من كل شيء: ما زاد عليه.
[4473]:- جاء في بعض النسخ: "وهو يقرأ بضم اللام"، ولكنا آثرنا اختيار النص الذي سجلناه فوق من بعض النسخ لأنه هو الذي يتفق مع ما نص عليه قبل ذلك من أن قراءة الضحاك بكسر اللام.
[4474]:- التنكيس هو: عكس الترتيب المعروف.
[4475]:- البيت لكثير عزة، راجع صفحة (21) من هذا الجزء، وقد روي: تمثل لي ليلى بكل طريق.
[4476]:- وبعده- كما جاء في اللسان: وألا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نَمَته ثمود قال ابن سيده: بلغنا أن قيسا طاول روميا بين يدي معاوية، أو غيره من الأمراء، فتجرد قيس من سراويله وألقاها إلى الرومي ففضلت عنه، فلما ليم في فعله قال هذين البيتين يعتذر عن تبذله في هذا المشهد المجموع.
[4477]:- رواه البيهقي، والبخاري، وفي البخاري زيادة: (فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)- بضم الدال المشددة وفتحها- كما قال في النهاية.
[4478]:- رواه في الجامع الصغير هكذا: (بعثت بالحنيفية السمحة، ومن خالف سنتي فليس مني)، وهو للخطيب عن جابر، ثم قال: ضعيف.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (6)

إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص : من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً ، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع ، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع : وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء ، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل ، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين ، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة ، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ . وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى } في سورة النّساء ( 43 ) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء ، أم آية سورة المائدة . وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم ، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم ، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول » ، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة : أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم ، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة ، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ ، أراد أن يذكر آية { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا } ، وهي آية النّساء ( 43 ) ، فذكر آية { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية . فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية { يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة } قد نزلت قبل نزول سورة المائدة ، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة ، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة ، والأرجح عندي : أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة .

فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن ؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة . ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك ، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء . قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام » « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية ، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا : إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة ، معناه كان بالسنّة . فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً .

وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ .

وفي « سيرة ابن إسحاق » ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ . وقولهم : الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود . وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة . قال بعض علمائنا : ولذلك قالوا في حديث عائشة : فنزلت آية التّيمّم ؛ ولم يقولوا : آية الوضوء ؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية .

فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة ، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك ، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن . وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل ، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء ؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة ، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء . ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا { فاطَّهّروا } ، وقوله هنالك { تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء .

ومعنى { إذا قمتم إلى الصّلاة } إذا عزمْتم على الصّلاة ، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل ، قال الشاعر :

فقام يذود النّاس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيل إلى هند

وعلى العزم على الفعل ، قال النابغة :

قاموا فقالوا حمانا غيرُ مقروب

أي عزموا رأيهم فقالوا . والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب ( إلى ) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا .

وروى مالك في « الموطّأ » عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم ، وهو مروي عن السديُّ . فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية ، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة .

وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب { إذا قمتم } فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة . والأمر ظاهر في الوجوب . وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف ؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري ، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى » ولم أره لغير الطبرسي .

وقال بريدة بن أبي بردة : كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد . وقال بعضهم : هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه ، كيفَ وهي مصدّرة بقوله : { يأيّها الّذين آمنوا } . والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين » ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء ( 43 ) المصدّرة بقوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله- ولا جُنباً } الآية . وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية ، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة ؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة . وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره . والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء . وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها ؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط ، هو القيام إلى الصّلاة ، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله : { وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا } فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء ، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات ، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر ، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم ، فمفهوم الشرط وهو قوله : { وإن كنتم مرضى } ومفهوم النّفي وهو { فلم تجدوا ماء } تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل ، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب .

وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة . وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو ، ولذلك اقتصر على قوله : { وأيديكم } في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء . وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة ، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما .

وقد اختلف الأيمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة ، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود . وفي « المدارك » أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها . ثمّ قال للسائل بعد أيّام : قرأت « كتاب سيبويه » فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود . وفي مذهب مالك : قولان في دخول المرافق في الغسل ، وأوْلاهما دخولهما . قال الشيخ أبو محمد : وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد . وعن أبي هريرة : أنّه يغسل يديه إلى الإبطين ، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة . وقيل : تكره الزيادة .

وقوله : { وأرجلكم } قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على { وأيديكم } وتكون جملة { وامسحوا برؤوسكم } معترضة بين المتعاطفين . وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي ، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة ؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها ، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه " وَيْلٌ للأعقاب من النّار "

وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بخفض { وأرجلكم } . وللعلماء في هذه القراءة تأويلات : منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل ، وروي هذا عن ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة . وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال : « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما » فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم } . ورويت عن أنس رواية أخرى : قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل ، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة ، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح ، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار » مرّتين . وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة ، قالوا : ليس في الرجلين إلاّ المسح ، وإلاّ ابن جرير الطبري : رأى التخيير بين الغسل والمسح ، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح .

واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء . ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل ، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح .

وجملة { وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه } مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا .

وجملة { مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج } تعليل لرخصة التيمّم ، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق .

واللام في { ليجعل } داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر ، وهي لام زائدة على الأرجح ، وتسمّى لام أَنْ . وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يُريد الله ليبيّن لكُم } في سورة النّساء ( 26 ) ، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود .

والحرج : الضيق والشدّة ، والحَرَجَة : البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق ، والجمع حَرَج . والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر ، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها .

وقوله : { ولكن يريد ليطهّركم } إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف ، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة ؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار : منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة ؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله ، ككون الظهر أربع ركعات ، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم ، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم ، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع . فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء ، كما تقدّم في سورة النساء .

وقوله { وليتمّ نعمته عليكم } أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام ، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة . فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن ، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم .

وقوله : { لعلّكم تشكرون } أي رجاء شكركم إيّاه . جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول .