وقرأ جمهور الناس «خلَقه » بفتح اللام على أنه فعل ماض ، ومعنى { أحسن } أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها ، ومن هذا المعنى ما قال ابن عباس وعكرمة : ليست إست القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة ، والجملة في { خلقه } يحتمل أن تكون في موضع نصب صفة ل { كل } أو في موضع خفض صفة ل { شيء } ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «خلْقه » بسكون اللام وذلك منصوب على المصدر ، والضمير فيه إما عائد على الله تعالى وإما على المفعول ، ويصح أن يكون بدلاً من { كل } وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن { أحسن } بمعنى ألهم ، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى : { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }{[9408]} [ طه : 50 ] أي ألهم الرجل إلى المرأة ، والجمل إلى الناقة ، وهذا قول فيه بعد ورجحه الطبري ، وقرأ جمهور الناس «وبدأ » ، وقرأ الزهري «وبدا خلق الإنسان » بألف دون همزة وبنصب القاف وذلك على البدل لا على التخفيف{[9409]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : كأنه أبدل الياء من بدى ألفاً ، وبدى{[9410]} لغة الأنصار ، وقال ابن رواحة : [ الرجز ]
«بسم الإله وبه بدينا . . . ولو عبدنا غيره شقينا »{[9411]}
و { الإنسان } آدم عدد أمره على بنيه إذ خلقه خلق لهم من حيث هو منسلهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال لنفسه عز وجل: {الذي أحسن كل شيء خلقه} يعني علم كيف يخلق الأشياء من غير أن يعلمه أحد.
{وبدأ خلق الإنسان} آدم عليه السلام، {من طين} كان أوله طينا، فلما نفخ فيه الروح صار لحما ودما.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: أتقن كلّ شيء وأحكمه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذي حسن خلق كل شيء...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعلم كل شيء خلقه، كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه، وأن قوله "أحْسَنَ "إنما هو من قول القائل: فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه "الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" بفتح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن، لأنه لا معنى لذلك إذ قرئ كذلك إلاّ أحد وجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحُسن فلما كان في خلقه ما لا يشكّ في قُبحه وسماجته، علم أنه لم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته. وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام، فإن أولى تأويلاته به قول من قال: معنى ذلك أعلم وألهم كلّ شيء خلقه، هو أحسنهم، كما قال "الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى" لأن ذلك أظهر معانيه. وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه بمعنى: الذي أحسن خلق كلّ شيء، فإنه جعل الخلق نصبا بمعنى التفسير، كأنه قال: الذي أحسن كلّ شيء خلقا منه. وقد كان بعضهم يقول: هو من المقدّم الذي معناه التأخير...
وقوله: "وَبَدأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ" يقول تعالى ذكره: وبدأ خلق آدم من طين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أحسن كل شيء} أي علم كل شيء خلقه؛ يخبر عن جهلهم وسفههم بتقدير قدرة الله وقوته، بقوى أنفسهم وقدرتهم، في إنكارهم البعث لخروجه عن تقدير الخلق وامتناعه عن وسعهم.
يقول: لا تقدروا قدرة الله بقدرة أنفسكم وقواكم كما لم تقدروا علمه بعلمكم؛ إذ يعلم هو بذاته بلا معلم، وأنتم لا تعلمون إلا بمعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ} حسنه، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة؛ فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت من حسن وأحسن، كما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وقيل: علم كيف يخلقه من قوله: قيمة المرء ما يحسن. وحقيقته. يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان
لما بين الدليل الدال على الوحدانية من الآفاق بقوله: {خلق السماوات والأرض وما بينهما} وأتمه بتوابعه ومكملاته ذكر الدليل الدال عليها من الأنفس بقوله: {الذي أحسن كل شيء} يعني أحسن كل شيء مما ذكره وبين أن الذي بين السماوات والأرض خلقه وهو كذلك لأنك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات وسلاسة الهواء للاستنشاق وقبول الانشقاق لسهولة الاستطراق وسيلان الماء لنقدر عليه في كل موضع وحركة النار إلى فوق، لأنها لو كانت مثل الماء تتحرك يمنة ويسرة لاحترق العالم فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق وقوله: {وبدأ خلق الإنسان من طين} قيل المراد آدم عليه السلام فإنه خلق من طين، ويمكن أن يقال بأن الطين ماء وتراب مجتمعان والآدمي أصله مني، والمني أصله غذاء، والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية بالآخرة ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو طين.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان} من بينِ جميعِ المخلوقاتِ {مِن طِينٍ} على وجهٍ بديعٍ تحارُ العقولُ في فهمِه حيثُ برَأ آدمَ عليه السَّلامُ على فطرةٍ عجيبةٍ منطويةٍ على فطرةِ سائرِ أفرادِ الجنسِ انطواءً إجمالياً مستتبعاً كلَّ فردٍ منها من القوةِ إلى الفعلِ بحسبِ استعداداتها المتفاوتةِ قُرباً وبُعداً كما يُنبئ عنه قولُه تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} إلخ.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ومن باب الإشارة: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ} فيه إرشاد إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئاً من المخلوقات.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ...} بعد قوله سبحانه: {الذي أَحْسَنَ} الخ، إشارة إلى التنقل في أطوار الحسن والعروج في معارجه فكم بين الطين والإنسان السميع البصير العالم فإن الإنسان مشكاة أنوار الذات والصفات والطين بالنسبة إليه كلا شيء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل. الحق المتمثل في أشكال الأشياء، ووظائفها. وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة. وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها. وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد.
سبحانه! هذه صنعته في كل شيء. هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق. هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان؛ فلا تجاوز ولا قصور، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص، ولا إفراط ولا تفريط، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة. كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص. ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر. ولا يتجاوز مداه ولا يقصر.. كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام. ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام. كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان.. وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث. وكلها من خلق الله. مقدرة تقديرا دقيقا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله.
كل شيء، وكل خلق، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود، معد لأداء هذا الدور إعدادا دقيقا، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل. هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف. هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون. هذه السمكة. هذا الطائر. هذه الزاحفة. هذا الحيوان.. ثم هذا الإنسان.. وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت. وهذه الأفلاك والعوالم؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام.. كل شيء. كل شيء. حيثما امتد البصر متقن الصنع. بديع التكوين. يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده. والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن، يمنح الإنسان رصيدا ضخما من ذخائر الحسن والجمال، ومن إيقاعات التناسق والكمال، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق؛ وتسكبها في القلب البشري؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب. ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة.
ولا يدرك القلب شيئا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة، ومن ملالة الألفة. وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله، ويتطلع إلى إيحاءاته. و إلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة. وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله.
إن هذا الوجود جميل. وإن جماله لا ينفد. وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود. قدر ما يريد. وفق ما يريده له مبدع الوجود.
وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود. فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء، يصل إلى حد الجمال. وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو، وفي كل خلق.. انظر.. هذه النحلة. هذه الزهرة. هذه النجمة. هذا الليل. هذا الصبح. هذه الظلال. هذه السحب. هذه الموسيقى السارية في الوجود كله. هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور!
إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملاها، ونستمتع بها وهو يقول: (الذي أحسن كل شيء خلقه).. فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير.
(الذي أحسن كل شيء خلقه).. (وبدأ خلق الإنسان من طين)..
ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين. فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة، وكان في المرحلة الأولى. ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح. وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة "المؤمنون".. (خلق الإنسان من سلالة من طين).. فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلا إلى مرحلة الطين.
وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض؛ وأنها نشأت من الطين. وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله. وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد. لا ما هو. ولا كيف كان. ومن الخلية الحية نشأ الإنسان. ولا يذكر القرآن كيف تم هذا، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار. فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح؛ وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين. وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح.
غير أنه يحسن -بهذه المناسبة- تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة: بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانا فوق القردة العليا ودون الإنسان.. أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة -التي لم يكن دارون قد عرفها- تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل. فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه؛ وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد. فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون. والكلب كذلك. والثور. والحصان. والقرد. والإنسان. وكل ما يمكن أن يقع -حسب نظريات الوراثة- هو الارتقاء في حدود النوع نفسه. دون الانتقال إلى نوع آخر. وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والإحسان: جعل الشي حَسناً، أي محموداً غير معيب، وذلك بأن يكون وافياً بالمقصود منه، فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي...