فكأنه قيل : ليت شعري ماذا فعلوا ؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه أم نكثوا ؟
فبين أنهم نقضوا ذلك فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ْ }
أي : بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات : الأولى : أنا { لَعَنَّاهُمْ ْ } أي : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة ، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم ، الذي هو سببها الأعظم .
الثانية : قوله : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ْ } أي : غليظة لا تجدي فيها المواعظ ، ولا تنفعها الآيات والنذر ، فلا يرغبهم تشويق ، ولا يزعجهم تخويف ، وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى ، والخير إلا شرا .
الثالثة : أنهم { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ْ } أي : ابتلوا بالتغيير والتبديل ، فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير ما أراده الله ولا رسوله .
الرابعة : أنهم { نسوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ْ } فإنهم ذكروا بالتوراة ، وبما أنزل الله على موسى ، فنسوا حظا منه ، وهذا شامل لنسيان علمه ، وأنهم نسوه وضاع عنهم ، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم .
وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك ، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به ، ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم ، أو وقع في زمانهم ، أنه مما نسوه .
الخامسة : الخيانة المستمرة التي { لا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ْ } أي : خيانة لله ولعباده المؤمنين .
ومن أعظم الخيانة منهم ، كتمهم [ عن ] من يعظهم ويحسن فيهم الظن الحق ، وإبقاؤهم على كفرهم ، فهذه خيانة عظيمة . وهذه الخصال الذميمة ، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم .
فكل من لم يقم بما أمر الله به ، وأخذ به عليه الالتزام ، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب ، والابتلاء بتحريف الكلم ، وأنه لا يوفق للصواب ، ونسيان حظ مما ذُكِّر به ، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة ، نسأل الله العافية .
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا ، لأنه هو أعظم الحظوظ ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية ، كما قال تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ } وقال في الحظ النافع : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ }
وقوله : { إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ْ } أي : فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم وهداهم للصراط المستقيم .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ْ } أي : لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى ، الذي يقتضي أن يعفى عنهم ، واصفح ، فإن ذلك من الإحسان { إن اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ْ } والإحسان : هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك . وفي حق المخلوقين : بذل النفع الديني والدنيوي لهم .
يحتمل أن تكون «ما » زائدة والتقدير «فبنقضهم »{[4489]} ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة ، التقدير : فبفعل هو نقضهم للميثاق ، وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا ، و { لعناهم } معناه بعدناهم من الخير أجمعه ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية » بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية » دون ألف ، وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم }{[4490]} وقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }{[4491]} والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ، ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية » ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :
لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف{[4492]}
فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئىًء منها قسي وزائف{[4493]}
قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { يحرفون الكلم } فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارىء يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم .
قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }{[4494]} يقتضي التبديل . ولا شك أنهم فعلوا الأمرين . وقرأ جمهور الناس «الكَلِم » بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام » بالألف وقرأ أبو رجاء . «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع { على خائنة منهم } وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى { خائنة } في هذا الموضع فقالت فرقة { خائنة } مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : { فأهلكوا بالطاغية }{[4495]} فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة ُمغَّل الاصبع{[4496]}
وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم » ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية{[4497]} وباقي الآية وعد على الإحسان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.