تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ} (38)

وأما حاله ، إذا جاء ربه في الآخرة ، فهو شر الأحوال ، وهو : إظهار الندم والتحسر ، والحزن الذي لا يجبر مصابه ، والتبرِّي من قرينه ، ولهذا قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ }

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ} (38)

{ حتى إذا جاءنا } أي العاشي ، وقرأ الحجازيان وابن عامر وأبو بكر " جاءانا " أي العاشي والشيطان . { قال } أي العاشي للشيطان . { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } بعد المشرق من المغرب ، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما . { فبئس القرين } أنت .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ} (38)

{ حتّى } ابتدائية ، وهي تفيد التسبب الذي هو غاية مجازية . فاستعمال { حتّى } فيه استعارة تبعية . وليست في الآية دلالة على دوام الصد عن السبيل وحسبان الآخرين الاهتداء إلى فناء القرينين ، إذ قد يؤمن الكافر فينقطع الصدّ والحُسبان فلا تغْتَّر بتوهم من يزعمون أن الغاية الحقيقية لا تفارق { حتّى } في جميع استعمالاتها .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر { جاءانا } بألف ضمير المثنى عائداً على من يعش عن ذكر الرحمان وقرينِه ، أي شيطانه ، وأفرد ضمير { قال } لرجوعه إلى من يعش عن ذكر الرحمان خاصة ، أي قال الكافر متندماً على ما فرط من اتّباعه إياه وائتِمارِهِ بأمره . وقرأ الجمهور { جاءنا } بصيغة المفرد والضمير المستتر في { قال } عائد إلى { من يعش عن ذكر الرحمن } [ الزخرف : 36 ] ، أي قال أحدهما وهو الذي يعشو . والمعنى على القراءتين واحد لأن قراءة التثنية صريحة في مجيء الشيطان مع قرينه الكافر وأن المتندم هو الكافر ، والقراءة بالإفراد متضمنة مجيء الشيطان من قوله : { يا ليت بيني وبينك بُعْدَ المشرقين } إذ عُلم أن شيطانه القرينَ حاضر من خطاب الآخر إياه بقوله : { وبَيْنَك } . وحرف { يا } أصله للنداء ، ويستعمل للتلهف كثيراً كما في قوله { يا حسرة } [ يس : 30 ] وهو هنا للتلهف والتندم .

والمشرقان : المشرق والمغرب ، غلب اسم المشرق لأنه أكثر خطوراً بالأذهان لتشوف النفوس إلى إشراق الشمس بعد الإظلام .

والمراد بالمشرق والمغرب : إما مكان شروق الشمس وغروبها في الأفق ، وإما الجهة من الأرض التي تبدو الشمسُ منها عند شروقها وتغيب منها عند غروبها فيما يلوح لطائفة من سكان الأرض . وعلى الاحتمالين فهو مَثَل لشدة البعد . وأضيف { بعد } إلى { المشرقين } بالتثنية بتقدير : بعد لهما ، أي مختص بهما بتأويل البعد بالتباعد وهو إيجاز بديع حَصل من صيغة التغليب ومن الإضافة . ومُسَاواته أن يقال بُعْد المَشْرق من المغرب والمغربِ من المشرق فنابت كلمة { المشرقين } عن ست كلمات .

وقوله { فبئس القرين } ، بَعْدَ أن تمنى مفارقته فرّع عليه ذمّاً فالكافر يذم شيطانه الذي كان قريناً ، ويُعرِّض بذلك للتفصّي من المؤَاخذة ، وإلقاءِ التبعة على الشيطان الذي أضَلّه .

والمقصود من حكاية هذا تفظيع عواقب هذه المقارنة التي كانت شغفَ المتقارنَيْن ، وكذلك شأن كل مقارنة على عمل سّيىء العاقبة . وهذا من قبل قوله تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضُهم لبعض عدوٌ إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] . والمقصود تحذير النّاس من قرين السوء وذم الشياطين ليعافهم النّاس كقوله : { إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوّاً } [ فاطر : 6 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ} (38)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{حتى إذا جاءنا} ابن آدم وقرينه في الآخرة جعلا في سلسلة واحدة.

{قال} ابن آدم لقرينه يعني شيطانه: {يا ليت} يتمنى {بيني وبينك بعد المشرقين}، يعني ما بين مشرق الصيف إلى مشرق الشتاء، أطول يوم في السنة، وأقصر يوم في السنة.

{فبئس القرين}: فبئس الصاحب معه في النار في سلسلة واحدة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"حتى إذَا جاءَنا"؛ فقرأته عامة قرّاء الحجاز سوى ابن محيصن، وبعض الكوفيين وبعض الشاميين «حتى إذَا جاءانا» على التثنية بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا الذي عَشِيَ عن ذكر الرحمن، وقرينه الذي قيض له من الشياطين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وابن محيصن: "حتى إذَا جاءَنا "على التوحيد، بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن.

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أنّ في خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا، الكفاية للسامع عن خبر الآخر، إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الآخر، وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب...

وقوله: "يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرقَيْنِ" يقول تعالى ذكره: قال أحد هذين القرينين لصاحبه الاَخر: وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين: أي بُعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر، كما قيل: شبه القمرين... وقد قيل: عنى بقوله: "بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ": مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق، وفي الصيف من مشرق غيره، وكذلك المغرب تغرب في مغربين مختلفين، كما قال جلّ ثناؤه: "رَبّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبّ المَغْرِبَينِ".

وذُكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين} يحتمل أن يقول في الآخرة يا ليت كان بيني وبينك في الدنيا بُعدُ المشرقين حتى لم أكن أراك، ولم أتّبعك.

ويحتمل أن يقول: {يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين} في الآخرة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ثم إذا ما انكشف – غداً -الغطاء تبيَّن صاحبُه خيانَته، ونَدِمَ على صُحْبَتِه، ويقال: {يَا وَيْلَتَي ليتني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} [الفرقان: 28] و {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان من ضل عن الطريق، ومن ظن أنه على صواب لا يكاد يتمادى بل ينجلي له الحال عن قرب، ضم إلى العجبين الماضيين عجباً ثالثاً بياناً له على ما تقديره: ونملي لهذا العاشي استدراجاً له وابتلاء لغيره ونمد ذلك طول حياته، {حتى} وحقق الخبر بقوله: {إذا}.

ولما علم من الجمع فيما قيل أن المراد الجنس، وكان التوحيد أدل دليل على تناول كل فرد، فكان التعبير به أهول، وكان السياق دالاً على من الضمير له قال: {جاءنا قال} تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين}.

ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام: {فبئس القرين} أي إني علمت أنك الذي أضلني وأوصلني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون: (حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين. فبئس القرين)! وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة. ويطوى شريط الحياة السادرة، ويصل العمي (الذين يعشون عن ذكر الرحمن) إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار. هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال، وأوهمه أنه الهدى! وقاده في طريق الهلاك، وهو يلوح له بالسلامة! ينظر إليه في حنق يقول: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين)! يا ليته لم يكن بيننا لقاء. على هذا البعد السحيق! ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله: (فبئس القرين)!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

المشرقان: المشرق والمغرب، غلب اسم المشرق لأنه أكثر خطوراً بالأذهان لتشوف النفوس إلى إشراق الشمس بعد الإظلام...

وقوله {فبئس القرين}، بَعْدَ أن تمنى مفارقته فرّع عليه ذمّاً؛ فالكافر يذم شيطانه الذي كان قريناً، ويُعرِّض بذلك للتفصّي من المؤَاخذة، وإلقاءِ التبعة على الشيطان الذي أضَلّه...

والمقصود تحذير النّاس من قرين السوء وذم الشياطين ليعافهم النّاس...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين). إنّ كل أنواع العذاب من جهة، ومجالسة قرين السوء هذا من جهة أخرى والنظر إلى وجهه المشؤوم، يجسد أمام عينيه كل ذكريات ضياعه وتعاسته.

نعم، إن عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد، بل إنّهما برأي بعض المفسّرين يقرنان بسلسلة واحدة!

من المعلوم أنّ المراد من المشرقين: المشرق والمغرب، لأنّ العرب عندما يريدون أن يثنوا جنسين مختلفين بلفظ واحد، فإنّهم يختارون أحد اللفظين، كما يقولون: الشمسان، إشارة إلى الشمس والقمر والظهران، إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر، وقد ذكروا تفاسير أُخرى لا تبدو مناسبة للآية من أي وجه، كقولهم: إنّ المراد هو مشرق بداية الشتاء، ومشرق بداية الصيف، وإن كان هذا التّفسير مناسباً في موارد أُخرى. وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير كناية عن أبعد مسافة يمكن تصورها، حيث يضرب المثل ببعد المشرق عن المغرب في هذا الباب.