تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (32)

فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه ، ولا برهان لما أصَّلوه ، وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }

ونور اللّه : دينه الذي أرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب ، وسماه اللّه نورا ، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة ، فإنه علم بالحق ، وعمل بالحق ، وما عداه فإنه بضده ، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين ، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم ، التي ليس عليها دليل أصلا .

{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } لأنه النور الباهر ، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه ، والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده ، وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء ، ولهذا قال : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله ، فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (32)

{ يريدون أن يُطفئوا } يخمدوا . { نور الله } حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد ، أو القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . { بأفواههم } بشركهم أو بتكذيبهم . { ويأبى الله } أي لا يرضى . { إلا أن يتم نوره } بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام . وقيل إنه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده بنفخه ، وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي . { ولو كره الكافرون } محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (32)

استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب ، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة ، والتألّب على مناواة الدين ، حين تحقّقوا أنّه في انتشار وظهور ، فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم ، فالضمير في قوله : { يريدون } عائد إلى { الذين أوتوا الكتاب } [ التوبة : 29 ] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالةُ النور بنفخ عليه ، أو هبوب رياح ، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر .

والنور : الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى : { نوراً وهدى للناس } في سورة الأنعام ( 91 ) . والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي ، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام ، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف ، والتحريض على المقاومة . والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب ، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمِه عليه ، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة ، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور ، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاءِ النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه . والمثال المشهور للتمثيل الصالحِ لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار :

كَأنَّ مُثَار النَّقْع فوقَ رؤوسنا *** وأسْيافَنَا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه

ولكن التفريق في تمثيليةِ الآيةِ أشدّ استقلالاً ، بخلاف بيت بشّار ، كما يظهر بالتأمّل .

وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم .

والإباء والإباية : الامتناع من الفعل ، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوِله محاوِل على فعلٍ وهو يمتنع منه ، لأنّهم لمّا حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى ، فكان حالهم ، في نفس الأمر ، كحال من يحاول من غيره فعلاً وهو يأبى أن يفعله .

والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبَى مجرَى نفي الإرادة ، كأنّه قال : ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره ، ذَلك أنّ فعل ( أبَى ) ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له ، فقَويَ جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله : { يريدون أن يطفئوا نور الله } . فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه . وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل « كَرِهْت إلاّ أخَاك » .

وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم ، ولم يُجأْ به في سورة الصف ( 8 ) إذ قال : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره } لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خُفية وفي لين وتملّق .

وذكر صاحب الكشاف عند قوله تعالى : { فشربوا منه إلا قليل منهم } في قراءة الأعمش وأبي برفع قليل في سورة البقرة ( 249 ) : أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير { فشربوا } على اعتبار تضمين { شربوا } معنى ، فلم يطعموه إلاّ قليل ، ميلاً مع معنى الكلام .

والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل : ويأبى الله إلاّ أن يُبْقي نوره .

و { لو } في { ولو كره الكافرون } اتّصالية ، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفياً . والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية ، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله . وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالَغ بها ، والكافرون هم اليهود والنصارى .